نقولا زيدان
لم تنجح قمة جنيف الأخيرة (30 حزيران) الموسعة في الوصول الى موقف موحد للدول الكبرى الخمس لحل الأزمة السورية. فقد كان كوفي عنان وهو منسق أنشطة المؤتمر قد عمد الى استبعاد كل من إيران والسعودية وذلك تجنباً للتوتر والنقاش الحاد وإضفاء جو من الهدوء عليه. فالنظام الأسدي مستمر في سياسة الأرض المحروقة وتدمير المدن وتنفيذ المجازر بحق المدنيين مستخدماً كافة أنواع الأسلحة، والمعارضة الملحة تزاوج بين حرب العصابات والمواجهة الصلبة الشرسة في المواقع التي التحقت بالثورة. والتصريحان الأميركي والروسي حول مستقبل سوريا تحدثا عن quot;مرحلة ما بعد الأسدquot; إلا أن تفسير هذه العبارة جاء متناقضاً على لسان لافروف وكلينتون، فتنحية الأسد العاجلة ليست واردة بالنسبة لموسكو الآن وهي تتحدث باستمرار عن الحل السياسي، بينما تعتبر واشنطن تنحية الأسد شرطاً لهذا الحل. وبالرغم من تعليق المراقبين الدوليين عملهم، وهم الذين شاهدوا استخفاف النظام الدموي ببنود عنان بضرورة الكف عن أعمال العنف لا بل كانوا شهود عيان على المجازر البشعة التي ارتكبتها كتائبه وفرق الموت التابعة له، فما زال عنان يعتقد بإمكان الوصول الى حل سياسي للأزمة. وما دام الموفد العربي الدولي ماضيا في تفاؤله هذا فباستطاعته سماع بوتين في خطابه أمام سفرائه التركيز المسهب على الحل السياسي وابلاغ quot;لافروفquot;أحد أجنحة المعارضة برئاسة ميشيل كيلو اصرار روسيا عليه. وبالمقابل فإن إيران، ذلك البلد الذي يصر عنان على مشاركته في أية محادثات سلام حول سوريا، فهو دون ضجيج، وبالإناة والصبر، قد أصبح قوة اقليمية لا يجوز الاستهانة بإمكاناتها. لقد أثبتت إيران أنها طرف مؤثر في عملية السلام التي لا يمكن أن تتم وتنجز إلا بمساهمتها، تماماً كما جرى في العراق حيث عقدت اتفاقاً ضمنياً مع الأميركيين كفل لهؤلاء نفوذاً جرى تقاسمه مع طهران. لقد أصبحت قوة اقليمية تنعم بمساندة موسكو المطلقة وتعاطف مكشوف من الصين التي تتصدر قائمة الدول المستوردة للبترول الايراني. يصرح وزير خارجيتها في زيارة خاطفة للخليج وعقب اطلاعه من quot;عنانquot;على فحوى محادثات جنيف: quot; ما من رئيس خالد على وجه الأرضquot; وذلك بإشارة للرئيس الأسد، إلا أنه يضيف بتعليق لافت quot;انه على الشعب السوري أن يختار رئيسه عام 2014 quot;(موعد انتخابات الرئاسة السورية المقبل)... معنى هذا الكلام ان كثيراً من الدم السوري سيسفك وكثيراً من المدن والقرى ستحرق، وان دماراً شاملاً سيحل بسوريا ما دامت المعركة مفتوحة حتى عام 2014 إن لم يكن أبعد من ذلك بكثير.
ويتساءل الرأي العام العربي حيال استمرار النزف وشيوع الدمار بالوتيرة المخيفة القائمة الآن، على ضوء هذه التصريحات والمواقف عما سيتبقى من سوريا والحالة هذه. لكن بعضهم يجيبون بتعليق فيه الكثير من المرارة والواقعية السوداء انه سيبقى الكثير الكثير من الركام والدمار كمادة دسمة لشركات إعادة البناء والاعمار في مرحلة ما بعد الحرب. عندها ستتسابق رؤوس الأموال العالمية العملاقة في مشاريع رفع الأنقاض وبناء ما تهدم وستكون لروسيا بلا شك حصة كبيرة في هذه المشاريع، ما دامت المفاوضات الأميركية الروسية ستؤدي حتماً الى الحفاظ على المصالح الروسية على ارض سوريا.
لقد دلت مفاوضات جنيف ان سلة المطالب الأميركية ونظيرتها الروسية التي يجري التفاوض عليها كسلة كاملة (a Whole package) تمثل فيها الأزمة السورية مفتاحاً لسائر القضايا العالقة. ذلك أن هذه الازمة تشكل المدخل للتفاهم الأميركي الروسي حول جملة المسائل التي يعتبرها الطرفان في غاية الحيوية بالنسبة لمصالح العملاقين ولعل أهمها على الاطلاق الدرع الصاروخي الذي تم نصبه في تركيا في الطرف الجنوبي الشرقي لحلف الناتو. وتدخل في مخاوف موسكو من التوسع المثير للقلق لحلف الناتو النوازع التي بدت جلية في أوكرانيا بعد سقوط كوتشما (2004) ومنازعات quot;ساكاشنيليquot; (جيورجيا) مع موسكو في القفقاس لدرجة أنه استضاف معسكرات تدريب المقاتلين التشيتشان على أرضه، لا بل تورطَ الأميركيون أنفسهم في مساندة الثوار التشيشان.
إن الروس ينتهزون فرصة الأزمة السورية وتداعياتها الاقليمية الخطيرة فيعبّرون عن تشددهم في شروط حل هذه الأزمة ليفهموا الأميركيين من خلال ذلك أنهم لا يسمحون لا للأميركيين ولا لحلفائهم الأطلسيين بزجهم في حرب باردة جديدة. إن حرباً كهذه والتي ظهرت بوادرها في ليبيا أول الأمر حيث تضررت التوظيفات البترولية الروسية كثيراً من النتائج الاقتصادية للربيع العربي هناك، والتي تظهر بوضوح أكثر في سوريا الآن، تذكّر الروس كثيراً بآخر أيام الاتحاد السوفياتي وكم كانت باهظة الأثمان قضية التسابق نحو التسلح الكوني في ما سمّي آنذاك بحرب النجوم. فقد كان ذلك سبباً رئيساً في انهيار النظام السوفياتي.
إن فلاديمير بوتين الساعي بكل قواه لتحويل روسيا الى دولة صناعية كبرى وحيث أن روسيا تمتلك الامكانات الوفيرة من خامات وطاقة بل طاقة بشرية أيضاً، لا يتوانى عن مواجهة الأميركيين وحلفائهم الساعين لقلب النظام السوري.
انه يسعى في سوريا الى تسوية سياسية تكفل لروسيا مصالحها. لكن مصالح روسيا في المنطقة لا تقتصر على سوريا فحسب بل على جملة مسائل رئيسة لا تستطيع روسيا التهاون فيها والتنازل إلا بالقدر الذي ستكشفه المفاوضات التالية وهي ما زالت تتطلب بعض الوقت لتصبح أمراً واقعاً لا مهرب منه. أما أن يبقى الأسد وأسرته وحاشيته أو لا يبقى فذلك الأمر ستظهره حتماً المفاوضات.
التعليقات