عرفان نظام الدين

كان من المفترض أن تكون الثقافة هي الرابح الأكبر في ثورات الربيع العربي بعد سنوات القهر والقمع والتحجيم والترهيب والترغيب. وكان من المأمول أن يكون المثقف العربي هو صاحب المصلحة الأولى في هذا الربيع، والمستفيد الأول من نفض الغبار عن دوره بعد سنوات من التهميش والإهمال والتنكيل والسجن والتعذيب والنفي والهجرة.

لكن الواقع الحالي لا يبشر بالخير، بل يبشر بضربات أخرى ستقع على رأس المثقف، وهجمة شرسة من جانب القادمين إلى السلطة والشارع لنسف كل ما هو مأثور أو معبّر عن الثقافة، وضرب أسس الحضارة العربية والإسلامية التي قامت على التسامح والمحبة وحفظ الثقافات المتعاقبة، حتى لو كانت تتناقض مع قيمها، وحماية التراث والآثار وأعمدة الثقافة باعتبارها ثروة وطنية لا يجوز التفريط بها أو التعدي عليها.

نعم، لقد جرت الرياح بما لا تشتهي السفن الثقافية بعد أن طال الانتظار وتلاشت الآمال وسادت خيبات الأمل وتم تصعيد التوافه والسخافات وأصحاب العقول المسطحة وتكريم النفوس المتسطحة والمنبطحة. وتولى المنافقون وعديمو الخبرة وأصحاب الغايات الرخيصة والنيات الخبيثة والثقافة المحدودة أعلى المناصب الفكرية والثقافية والإعلامية، فيما انزوى أصحاب الخبرات والقدرات وتوارى رجال الفكر النيّر وتم اضطهاد المثقفين الحقيقيين وإبراز المثقفين المزورين والمدعين والانتهازيين.

فعلى رغم هيمنة العولمة وثورة التكنولوجيا وانتشار الانترنت بكل فروعه وروافده، ومع أن قضية حقوق الإنسان أصبحت في قمة اهتمامات العالم، فإن سياسة اضطهاد المثقف توالت بأشكال مختلفة وأساليب متعددة ووجوه جديدة تدعي الثورة وهي رجعية وتدعي الدفاع عن الحريات وهي أول من يعاديها، وتنادي بالديموقراطية وهي أول من يكفّرها ويردد شعارات حقوق الإنسان وهو أصلاً لا يعترف بها!

فقد تفاءلنا خيراً بقدوم ربيع ثقافي مزهر بعد كل ما شهدته الدول العربية وانتظرنا أن تكون الكلمة الفصل للمثقفين في كل مفاصل الحياة السياسية الجديدة وكل مناحي المفاصل الثقافية في المؤسسات العامة والخاصة ولا سيما في ما يتعلق بالثقافة والحضارة والتراث والموروث الشعبي والفني، ولكن الأمل أجهض وعدنا إلى المربع الاول في تجدد إشكالية العلاقة بين السلطة والمثقف على امتداد العالم العربي.

سنوات طويلة من التهميش والتهجين والاضطهاد والقمع تم خلالها الاستئثار بالحكم ومعه القطاعات الفكرية والأدبية والصحافية والإعلامية في شكل عام بحيث تم تكوين جيش من المطبلين والمزمرين والمنافقين والمدعين و laquo;النجومraquo; الهابطين علينا بالمروحيات العسكرية. كما تم إبراز مجموعة من أذناب السلطة ليعملوا جنباً إلى جنب مع وعاظ السلاطين، يصدرون الفتاوى لمصلحتهم ويدبجون المدائح بحمدهم وإبراز مفاتنهم التي لا يخفى قبحها على أحد.

وبقيت الإشكالية قائمة لعقود إن لم نقل لقرن كامل جرى خلاله تفريغ الساحة وتسطيح العقول وإرغام كل من له صلة بالثقافة والفكر إما على الرضوخ وتسليم الراية والبصم بالأصابع العشرة أو على التهجير والنفي الإجباري والاختياري وبينهما السجن والتعذيب والتشريد والإفقار وقطع الأعناق مع قطع الأرزاق.

وعلى رغم التطورات وعمليات الانفتاح الوهمية، لم نشهد أي تقدم نحو حل هذه المعضلة وإنهاء هذه الإشكالية في العلاقة بين السلطة الحاكمة والثقافة المحكومة.

ففي عهود ما قبل قدوم الربيع، كانت هذه الإشكالية تأخذ أشكالاً مختلفة بين مد وجزر وحروب وهدنة وانفتاح وانغلاق، لكن السمة الرئيسة بقيت تدور حول نقطة رفض الاعتراف بدور المثقفين أو في تعزيز قيمة الثقافة وأهميتها في حياتنا وكل ما يمت اليها بصلة من علاقة مع الآخر إلى دعم الاقتصاد الوطني وتشجيع السياحة وحفظ الموروث الشعبي وتعزيز الفن بكل صوره وألوانه وإبداعاته.

وهناك تحفظ واحد على وصف laquo;المثقفraquo; لأنه جرى تقزيمه وتشويه صورته وتزوير هويته، فاختلط الحابل بالنابل وصار كل من هبّ ودبّ يدعي حمل صفة laquo;المثقفraquo; كلازمة في تقديم نفسه في الإعلام والمحافل والمهرجانات الثقافية كما دخلت الشللية والوساطات والتدخلات الرسمية في تكريم المحاسيب ومنحهم جوائز وإسدال ألقاب تفخيمية عليهم مع أننا نعرف جميعاً أن أغلبهم من المحاسيب ومنتحلي الصفة.

وعلى رغم الحاجة إلى المثقفين في الحوار مع الآخر، وأهمية اللجوء إلى الثقافة والحضارة العربية الإسلامية في خوض غمار laquo;صراع الحضاراتraquo; وكل ما هبّ علينا من عواصف خلال العقود الماضية وبالذات منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، فإن التهميش استمر وضاعت laquo;طاسةraquo; الثقافة في حمام الفوضى العارمة التي ضربت أوطاننا ومجتمعاتنا في الصميم نتيجة تراكم الأخطاء وتكرار ارتكاب الخطايا في ممارسة الحكم والهيمنة والاستئثار وضرب أسس الديموقراطية وإشاعة أجواء الرعب والقهر والاضطهاد مع جرعات التخدير والتضليل والتدجين والتدجيل مع موجات الفساد والنهب وتحطيم القيم.

وكم تمنينا لو تم إسدال الستار على مثل هذه السياسات والكف عن مثل هذه الممارسات لكن رموز ممسكي السلطة والشارع هذه الأيام جاهروا بمعاداتهم لكل ما هو إبداعي وبدأوا عهدهم بالتكشير عن أنيابهم ضد الفن والفنانين، والتراث والآثار، وقبل كل ذلك قمع الحريات وحق التعبير الذي اعتبره مقدساً لأنه يعبّر عن ضمير الشعب ويتيح له المجال للتنفيس عن همومه والاستماع إلى الرأي والرأي الآخر ليختار بعدها ما يناسبه ويقنعه بما يعبّر عن تطلعاته.

والمؤسف أن اضطهاد الثقافة ومجالات الإبداع اتخذ منحى خطيراً ومؤسفاً، ففي السابق كان يكتفى بالتهميش والإفقار والتهجير، أما اليوم فقد دخلنا في عهود ممارسات العزل والإرهاب والتكفير، بحيث لا يجد المثقف أمامه إلا حائطاً يضرب رأسه به أو يهرب منه. فلا مفر أمام العقول المتجمدة ولا أمل بحوار مع أصحاب الرأي الواحد والموقف الواحد الرافض للآخر مهما كان وزنه أو فكره، والأمثلة كثيرة لا داعي لتعدادها، وقد تحتاج الى مقال آخر تتم فيه مقاربة الممارسات والمواقف والقرارات والإضاءة على خطر أكبر وهو عدم اقتصار المحاسبة والمعاقبة والتكفير على السلطة الحاكمة، بل إباحة هذا الحق لكل من هبّ ودبّ بحيث يصبح الشارع هو الآمر الناهي عن حق أو عن باطل.

ومع هذا، فإن علينا أن نواصل الدعوة إلى التسامح وفتح باب الحوار وجمع الأضداد للوصول إلى حلول تنهي إشكالية العلاقة بين السلطة والمثقف، ووضع حدّ لديكتاتورية كل من يبيح لنفسه محاسبة مثقف أو كاتب أو مفكر أو فنان.

ولنا في مثل هذا الحوار البنّاء ما جرى في مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث في المملكة العربية السعودية الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز قبل 27 عاماً ونجح فيه بأن يجتمع جميع أطياف الفكر والثقافة العربية تحت سقف واحد مع منح المشاركين حرية مطلقة في الحوار والتفاهم حول كل ما يخطر على البال من قضايا وعناوين ومشاكل بدءاً من الحوار في ما بيننا والحوار مع الآخر ودور المثقفين في بناء المستقبل والمشاركة في إبداء الرأي والمشورة والإصلاح والتوعية والدفاع عن حضارتنا وخصوصيتنا.

وكان نجاح الجنادرية قدوة لمهرجانات أطلقت بعدها على مستوى العالم العربي وأبرزها مهرجان أصيلة في المغرب وهي تدور في محور الحوار ودعم الثقافة وحل إشكالية العلاقة بين السلطة والمثقف. وها نحن اليوم نقف على مفترق طرق ولا بد للوصول إلى الهدف من الانفتاح وبناء جسور التواصل واستعادة الثقة بين جميع أطراف المعادلة لتشمل الشعب والسلطة والمثقفين آملين بألا تتعمق أزمتها وتبقى مفقودة لتنذر بعواقب وخيمة.