فاروق شوشة

هذا كتاب - شديد الأهمية والخطورة - يؤكد واضعوه أنه يستهدف وضع استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب، وهو بهذا المعنى يعرض لقضية القضايا فى الزمن الراهن، يتناولها عشرة من الباحثين المختصين، جمعتهم موضوعية البحث العلمي، وشموليته، وسبر جميع أغواره وزواياه، دون إغفالٍ للبعد الثقافى فى مواجهتنا له - نحن ضحايا هذا الإرهاب والمتحملين لتبعاته - ليل نهار.

صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 2008 فى مدينة «سلا» بالمغرب بعد أن أصبح لنظرية «الفوضى الخلاّقة» مدلولها العملى بوقت قصير، بوصفها الهندسة العلمية الجديدة لصنع إرهاب من طراز جديد، هو إرهاب الدول العظمي، وبصفة خاصة «الغطرسة الأمريكية». ولأن مؤسسة المهدى بن عبود للبحث والدراسات والإعلام فى المغرب أقامت أولا - فى عام 2007- ندوة تحت عنوان: نحو استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب، فقد كان لها فضل الكشف عن حقيقة علمية مفادها أن إسهام العلوم الإنسانية فى دراسة جريمة الإرهاب أصبح أمرا ضروريا وعاجلا فى ضوء ما توصلت إليه النظريات والمناهج الحديثة فى الأنثروبولوجيا والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع واللسانيات والديموغرافيا وغيرها. ذلك أن هذه العلوم هى القادرة على فحص خبايا وخلفيات جريمة الإرهاب وفهمها، بعد أن التقت وجهات نظر الباحثين فى ظاهرة تنامى العنف وتفاقم الجريمة عند إشكالية الوقوع على تعريف واحد للإرهاب وبالتالى إشكالية الحرب على الإرهاب. ذلك أنه لا يمكن القضاء على جريمة الإرهاب إلا بعد القضاء على الظلم، والاستبداد، والاستعباد، والاستغلال، والاسترهاب، والإذلال للشعوب المستضعفة. وخصوصا عندما نتأمل الخطاب حول جريمة الإرهاب من النواحى السياسية والإعلامية والعلمية، والتضخم الهائل فى هذا الخطاب غير السليم أو البريء أو المحايد منذ أحداث 11 سبتمبر عام 2001. وكانت الغاية المرجوة من وراء هذا كله هى تقديم صورة كارثية للواقع تبرر التصدى الشرس والعنيف لجريمة الإرهاب.
ويدرك العلماء المشاركون فى وضع هذا الكتاب وجوب التحلى بالهدوء والرصانة فى أثناء معالجة جريمة الإرهاب، الأمر الذى يتطلب مسافة منهجية مفروضة بين الدارس وموضوع الدراسة، كفيلة بفك العناصر المتشابكة للإرهاب، بما يمكننا من رصد مسببات الجريمة، واقتراح سبل معالجتها والتخفيف من شوكتها أو إبداع حلول مناسبة تتعامل مع الظاهرة بمزيد من الحكمة وقدر أكبر من الحنكة.

فالولايات المتحدة الأمريكية - مثلا - لم تكن قادرة على التنبؤ فى مواجهة الهجمات التى استهدفتها فى عام 2001، كما أن عظمة قوتها العسكرية لم تتمكن من حمايتها، فهل يعنى هذا أنها لم تعد القوة الأعظم والأوحد التى لا تقهر؟ وما هو مفهوم القوة الآن وكيف يتم استخدامه فى العلاقات الدولية باعتباره أمرا محفوفا بالغموض والالتباس؟ ولماذا يحاول كثير من الباحثين اختزال القوة فى مظهرها العسكرى وهو أمر دخل متحف التاريخ، أما ما يطلق عليه الآن مظاهر الهيمنة أو السلطة البنيوية فله تداعياته فى المجالات المتصلة بالأمن وأسواق المال والمعرفة والإنتاج.

وفى المقدمة - الشديدة التركيز - التى كتبها المشرف على هذا الكتاب: الدكتور رشيد الرينكة إشارة إلى أزمة هيئة الأمم المتحدة بين الشرعية والفاعلية، والحرب الجائرة التى تخوضها الولايات المتحدة ضد الإرهاب بعد أن رفع مصطلح «الحرب» من منزلة الخصْم وأضفى عليه صفة من الشرعية التى هو غير جدير بها. وبما أن الحرب على الإرهاب تحمل صفة الشرعية، فإن المبادرة الأمريكية تندرج فى إطار الحرب العادلة، وتعتبر كلَّ من خوّلت له نفسه بالتشكيك فى شرعيتها خائنا وغير أخلاقي، كما أن الربط الذى تقوم به بين الحرب على الإرهاب ومصطلح الحرب الاستباقية، والتصرف العسكرى المنفرد بدعوى الحرب الوقائية يؤرق حلفاء أمريكا، ويضعف التحالف ضد الإرهاب. وكان من جراء الحرب على العراق تنامى الaكراهية والمعارضة لأمريكا والغرب بين شعوب الشرق الأوسط والعالم الإسلامى منذ تبنّت أمريكا الدعوة إلى «محاربة الإرهابيين فى بلادهم بدلاً من أن يأتوا ويحاربونا فى بلادنا».

هنا تصبح المواجهة مع الإرهاب - مواجهة حقيقية - تتمثل فى قطع الطريق على الإرهابيين، اجتماعيا وسياسيا، والتصدى للمصالح التى يعتقدون أنهم يدافعون عنها. ويبقى الفوز الحقيقى فى النهاية قائمًا على جلب القلوب والعقول وجبر الخواطر، لأن الحرب لا تحقق ذلك، فشتان بين شرعية القوة وقوة الشرعية. وفى هذا السياق أيضًا، تتناول مقدمة الكتاب ما يسمى بخوصصة الحروب (نحن فى مصر نقول خصخصة الحروب ولا نستعمل مصطلح خوصصة) ومثلها الواضح فضيحة بلاك ووتر الشركة الأمريكية الأكبر فى العالم، المتخصصة فى تجنيد المرتزقة وإرسالهم للقتال فى الدول والمناطق التى تشهد حروبا وصراعات، وبخاصة فى العالم الإسلامى (العراق وأفغانستان). ويبلغ تعداد المنتسبين إلى بلاك ووتر نحو مليونين من المقاتلين، معظمهم خدموا فى القوات الخاصة الأمريكية أو فى المارينز أو المخابرات المركزية الأمريكية. وقد تأسست فى عام 1996- 1997 ولها معدات عسكرية لا يمتلكها إلا الجيش الأمريكي، كما أن لها أسطولا من الطائرات العسكرية بما فيها طائرات الهيليكوبتر المقاتلة. نحن إذن بإزاء أعداد هائلة من الرجال المسلحين الذين لا يرتدون الزى العسكرى لأية دولة، فهم - بموجب قوانين الحرب - ليسوا محاربين شرعيين. ومن الواضح أن قوات المرتزقة - ا لموجودة مثلا فى العراق - تشكل دروعا أمنية وعسكرية، لا يستطيع الاحتلال الأمريكى الاستغناء عنها، وهو يستخدمها فى عمليات التفجير والإبادة، وفى بث الفتنة الطائفية بين العراقيين. وهم معروفون بشدة بطشهم، وبأنهم يطلقون النار دون تمييز.

إذن فشركة بلاك ووتر فوق القانون، لا يمكن أن يحاكم أفرادها فى المحاكم العسكرية، ولا يمكن تقديمهم إلى المحاكم المدنية. فمن إذن يقوم بالتحقيقات فى الشكاوى ضدّ ما يرتكبونه من جرائم؟ ومن هم المدعون الذين سيطالبون بحقوق المعتُدَى عليهم، ومن هم الذين سيحمون هؤلاء المحققين والمدعين؟ ومن الذى سيتولى أمر مقابلة الضحايا - أو ذويهم - وتسجيل معلوماتهم.

إن هذا الوضع يمس دستورية القوانين وشرعيتها، ومن هنا كان تدشين الولايات المتحدة الأمريكية لخصخصة الحرب يمثل صفحات من تاريخ بالغ السواد والسوء ضد البشرية. فهو بمثابة جريمة حرب، جريمة ضد الإنسانية جمعاء.

ثم تتناول مقدمة الدكتور رشيد الرينكة نظرية الفوضى الخلاقة التى تقوم على أساس أن الاستقرار فى العالم العربى عائق أساسى أمام حماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وتقدمها فى المنطقة. لذلك لابد من الاعتماد على سلسلة من التدابير والإجراءات تضمن تحقيق رؤيتها التى تطمح إلى السيطرة والهيمنة على العالم العربى الذى يمتاز - من وجهة النظر هذه - بأنه عالم عقائدى وغنى بالنفط. هذا الامتياز الإلهى المتمثل فى العقيدة يشكل تهديدًا مباشرًا وعائقًا أمام المصالح الأمريكية. كما ينادى أقطاب نظرية الفوضى الخلاقة باستخدام القوة العسكرية لتغيير الأنظمة كما حدث فى أفغانستان والعراق (وكما ستظهر تجلياته بعد ذلك بعدة سنوات فيما يسمى ثورات الربيع العربى فى بعض الأقطار العربية).

&