&
لم يكن يبحث عن جذور خفية خاصة بالإرهاب ولكن عن حل لظاهرة الموت المعولَم


هجمات باريس .. ما يلزم «المثقف الاعتذاري» تعلمه من «بودريار» الفرنسي

&

تركي التركي&

هجمات باريس كغيرها من العمليات الإرهابية أثارت الكثير من التنديد والتضامن العالميين. ولكن الغريب ما أثارته من شعور بـ "الذنب" أو التراشق بالمسؤولية لدى بعض المثقفين العرب ومنهم سعوديون؛ شعور استدعى البعض للاعتذار صراحة على مواقع التواصل عما حدث.

تنفيس ثقافي

اعتذار لم ينتظره أو يتوقعه "الآخر" الذي لم يلبث أن أقر أمنيا وحكوميا بمسؤولية أفراد من مواطنيه عن هذا العمل الإجرامي دون حاجته إلى الإشارة لأصولهم العرقية أو المذهبية. طالما حملوا أوراقا تثبت انتماءهم الوطني. حقيقة مدنية وثقافية قد لا يدركها بعض المثقفين في خضم مشاعر وخصومات محلية أو عربية ضدية تجد في بعض الحوادث – وإن كانت بعيدة- ملجأ للتنفيس الثقافي.

هذا البعد الحديث والمتشابك عنكبوتيا هو ما كان قد أدركه ونبّه إليه المفكر الفرنسي الراحل "جان بودريار" منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر حين لم يسارع كغيره من مثقفي الغرب لتأول الأحداث بوصفها صداما و"صراع حضارات" أو لوم ثقافة عربية إسلامية. بل على العكس تماما. توقف هذا المفكر متأملا ومحذرا من ثقافة أعم وأشمل هي ثقافة "العولمة". التي أسهمت الحضارة الغربية، برأيه، في زرع بذورها الاقتصادية والثقافية دون أن تستطيع السيطرة على نتائجها وتفرعاتها؛ السلبية منها والإيجابية.

فكانت كغيرها من المنتجات الثقافية والحضارية التي تحمل بين طيات ولادتها ونموها، بذور هدمها وموتها. لذا حذّر بودريار من تحميل ثقافة بعينها مسؤولية الإرهاب والموت والدمار ـ خصوصا ـ في زمن الرمز المشترك والصورة المهيمنة. في زمن "الحقيقة المفرطة" والمصطنعة Hyper Reality بحسب تعبير بودريار. حيث ثقافة الموت والانتحار والعنف يروّج لها فيلم الأكشن (الحركة) الأمريكي الحديث، وأدوات الإعلام التقليدية والحديثة، بالقدر ذاته الذي مهدت لها أيديولوجيات متعددة قديمة تجد في الموت خلاصها الوحيد.

عولمة الموت

إنهم "يقاتلون بموتهم"، وليس بثقافتهم، هذا ما نبّه إليه بودريار، وذكره نصا، حين كان الحديث والتحليل النفسي والاجتماعي في ذلك الوقت يتعلق بإرهابيي "القاعدة". وهو نفسه ما كان سيقوله حول إرهاب "الدواعش" في عقر داره باريس. دون حاجته إلى اعتذار عربي أو إسلامي. إذ كان فقط - بوصفه مثقفا مستقلا - بحاجة إلى تفهم عالمي لواقع العولمة الجديد ولثقافة الصورة الإعلامية ورمزيتها. ولمزيد من العمل الثقافي حول هذه الوقائع الافتراضية العنكبوتية. التي يمكن ملؤها بالكثير من الأيديولوجيات الفالتة من عقالها النفسي. حتى أصبح "القتال بالموت" سبيلا لكثير من الشباب حول العالم بمن فيهم جيل ثالث فرنسي المنشأ والتربية. وهنا يشير بودريار إلى أن النقلة النوعية والثقافية التي أحدثها "إرهاب العولمة" الحالي بقدرته على تجنيد شباب متوسط الحال والتعليم، متنوع الثقافات، من أجل الانتحار خدمة لقضاياه بعد أن كان الانتحار فعلا نفسيا يقتصر على الفقراء والمهمشين.

خلاصة فكر بودريار، وما يميز كتاباته، أنه لم يكن يبحث عن "جذور" ماضوية خفية خاصة بالإرهاب كما يفعل ويكرر كثير من مثقفي اليوم، غربا وشرقا. بل كان يبحث قدما عن علاج لما هو أكثر بروزا ووضوحا؛ ظاهرة "موت معولَم" أسهمت في تفشيها، حضارات عقلانية استعمارية، تماما كما أسهمت في تأصيلها حضارات مثالية خَلاصية.

تشابك ثقافي معقد لا يدركه كثير من رؤى المثقفين ومقترحاتهم العالقة والقابعة في قضاياها وصراعاتها المحلية. لذلك هي لا تجد بدا من الاعتذار. ليس من أجل فضيلة الاعتذار بحد ذاتها. ولكن انتصارا ضمنيا متوهَما لقضايا شخصية. موت مجاني معولم تعانيه الكرة الأرضية برمتها، وجد في أدوات الإنترنت "الشبكية" تماهيا فنيا وتقنيا غير مسبوق، مع طبيعة تفشيه وعدواه "الفيروسية" فكريا وثقافيا. موت معولم لم يكن ليقف عند تفسيرات دينية إسلامية تحديدا، ليجد مبرر خلاصه. بل كان ليتجاوزها ويبحث عن غيرها من التأويلات والأيديولوجيات، يميناً أو يسارا، كي يحقق ذاته ووجوده الأهم "في موته".