صالح القلاب
بينما هناك ليس مجرد افتراضات وأمان فقط، بل معلومات يُشار إليها وللمرة الأولى أنها جدية وفعلية على أنَّ روسيا بدأت تعيد النظر بموقفها اتجاه قضايا الشرق الأوسط الملتهبة وفي مقدمتها الأزمة السورية، فإنَّ السؤال المطروح والمتداول وإنْ على نطاق ضيق لدى بعض أوساط صانعي القرارات الحاسمة العرب هو: ما الذي يريده الرئيس فلاديمير بوتين يا ترى ثمنًا لتخلي روسيا عن دعمها المستمر لنظام الرئيس السوري بشار الأسد منذ عام 2011 والذي لولاه لما استطاع هذا النظام الصمود كل هذه الفترة الطويلة وذلك رغم أن دولة الولي الفقيه وضعت كل إمكانياتها العسكرية والمالية بتصرفه وإلى جانبه..؟!
إن العلاقات بين الدول، كما هو معروف، تحكمها المصالح المتبادلة المشتركة، وهذا بالطبع وبالتأكيد ينطبق على العلاقات الروسية – السورية، ولعل ما تجب الإشارة إليه ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة الهامة جدًّا أنَّ الاتحاد السوفياتي عندما كان في ذروة تألقه بعد الحرب العالمية الثانية قد اعتبر سوريا، بدءًا بعام 1949 بعد انقلاب حسني الزعيم الذي لم يدُمْ سوى شهورٍ قليلة، أهم مجالٍ حيوي عسكري وأهم حليف «استراتيجي» في الشرق الأوسط، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن وهذا مع بعض الاهتزازات الثانوية نتيجة متغيرات الانقلابات العسكرية التي تلاحقت على كل مدى هذه الفترة الطويلة وآخرها انقلاب حافظ الأسد (الحركة التصحيحية) في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970.
كان الاتحاد السوفياتي بحاجة إلى الوصول إلى المياه الدافئة وبحاجة إلى قاعدة بحرية على الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وهذا ما وفرته له سوريا بعد تخلصها من الاستعمار الفرنسي بنحو ثلاثة أعوام، وما بقيت توفره له إنْ في عهد حسني الزعيم وإنْ في عهد سامي الحناوي القصير العمر أيضا، وإنْ في عهدي أديب الشيكلي وعهد الوحدة مع مصر، الجمهورية العربية المتحدة، وعهد الانفصال أيضا والعهد «البعثي» الذي بدأ بالثامن من مارس (آذار) عام 1963 واستمر مع حافظ الأسد وابنه بشار الأسد حتى الآن.
صحيح أن الاتحاد السوفياتي قد كسب مواقع جديدة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي، من أهمها مصر بعد ثورة «الضباط الأحرار» بقيادة جمال عبد الناصر في عام 1952، وفي العراق بعد انقلاب عبد الكريم قاسم الدموي في عام 1958، وفي الجزائر بعد انتصار ثورتها في عام 1962، وفي اليمن الجنوبي بعد طرد الاستعمار البريطاني في عام 1967، لكن سوريا بالنسبة إليه، أي بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي، بقيت هي الأساس. والمسألة هنا لا تتوقف على قاعدته البحرية في طرطوس، التي كانت ولا تزال في غاية الأهمية، وإنما على الشعب السوري الذي كان يشعر أنه بحاجة إلى هذا الحليف القوي نظرًا لعلاقاته التي بقي يغلب عليها التوتر مع جارته الشمالية تركيا، ونظرًا للصراع المستمر مع إسرائيل الذي اتخذ طابع الصراع العربي مع «العدو الصهيوني» بعد احتلال عام 1948 وبعد احتلال عام 1967 الذي فقدت فيه دمشق هضبة الجولان التي هي في الحقيقة لا تزال محتلة حتى الآن. وهكذا ورغم تقلب أمزجة بعض الذين جاءت بهم الانقلابات العسكرية المتلاحقة إلى الحكم فإنَّ سوريا بصورة عامة بقيت تعتبر الاتحاد السوفياتي، ولاحقًا روسيا، الحليف «الاستراتيجي» الذي لا غنى عنه لا عسكريًا ولا سياسيًا، وبالمقابل فإنَّ موسكو، إنْ في السابق وإنْ في اللاحق وإنْ في المرحلة الشيوعية أو في عهدي بوريس يالتْسِن وبوتين، بقيت تعتبر سوريا أهم ركائزها في الشرق الأوسط وبقيت لا تبخل عليها لا بالدعم السياسي الذي تحتاج إليه ولا بالدعم العسكري غير المحدود ولا بالخبراء العسكريين والاقتصاديين ولا بالقروض المالية المجزية في كثير من الأحيان.
إن هذا هو الأساس، ثم ولأنَّ العلاقات بين الدول تقوم على المصالح والمنافع المتبادلة فإن بوتين، الذي ورث عن بوريس يالتسن دولة تخلصت من الاتحاد السوفياتي ومن الشيوعية والماركسية – اللينينية وبدأت رحلة التحول نحو الرأسمالية والاقتصاد الحر والانفتاح على الغرب الرأسمالي وحتى على الولايات المتحدة، قد بقي يحتفظ بمواقع وعلاقات موسكو السابقة في الشرق الأوسط وفي أوروبا الشرقية وأيضا في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وبالطبع في سوريا، وحيث اعتبر اهتزاز نظام بشار الأسد بدءًا بعام 2011 بمثابة اهتزاز لأهم ركيزة لروسيا في الشرق الأوسط وفي حوض البحر الأبيض المتوسط، وكل هذا والمعروف أنَّ الرئيس الروسي قد بادر وبسرعة إلى الانفتاح على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وعلى النظام الجديد في مصر بعد إسقاط حكم الإخوان المسلمين عندما أحس، في ضوء تطورات العامين الأخيرين، أنَّه قد يفقد مرتكزه السوري في أي لحظة.
والآن وقد أيقن فلاديمير بوتين كما يقال ويشاع، وبخاصة بعد سحب نحو «100» خبير روسي من سوريا، أنَّ نظام بشار الأسد، بعد الانتصارات التي حققتها المعارضة على الأرض في الأسابيع الأخيرة، قد اقترب من لحظة الانهيار فإن عليه، أي على الرئيس الروسي، أن يعيد ترتيب أوراقه في الشرق الأوسط كله وإن عليه قبل ذلك أنْ يتعامل مع «جنيف1» ومع المرحلة الانتقالية المقترحة المترتبة عليه بطريقة مختلفة عن التعامل السابق، والهدف بالأساس هو الحفاظ على المصالح الحيوية والاستراتيجية لبلاده في هذه الدولة العربية والشرق أوسطية المحورية، وكما بقيت عليه الأمور بدءًا بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949 وانتهاءً بانقلاب حافظ الأسد في عام 1970 وإلى الآن.
إنه من غير الممكن أن يبقى فلاديمير بوتين يراهن على حصان بات من المؤكد أنه أصبح حصانًا خاسرًا إلى الأبد، فمصالح بلده في سوريا وفي هذه المنطقة والشرق الأوسط كله تقتضي ضمانًا مسبقًا قبل أي تغيير في المواقف الحالية، وهذا يجب أن تفهمه الولايات المتحدة قبل غيرها ويجب أن تفهمه تركيا ومعها كل الدول العربية المعنية، فالرئيس الروسي الذي انتهى إليه إرث الاتحاد السوفياتي من غير الممكن أن يتنازل عن هذا الإرث الاستراتيجي بالسهولة التي يتوقعها البعض، وبخاصة أنه لا يزال يملك أوراقا قوية مؤثرة في الأزمة السورية وأهمها الورقة الإيرانية.
إنَّ هناك مؤشرات كثيرة على أنَّ بوتين قد فقد الأمل فعلاً بإمكانية الحفاظ على بشار الأسد ولو لسنة أخرى فقط، لكن يجب ألاَّ يفهم الأميركيون وغيرهم هذا على أنه استسلام روسي لمستجدات الأزمة السورية، فروسيا لها مصالح حيوية في سوريا مستمرة منذ نهايات أربعينات القرن الماضي، وهي بالتأكيد ستبذل كل ما تقدر عليه للحفاظ على هذه المصالح، ولذلك فإنه على الولايات المتحدة أن تدرك قبل غيرها أن عليها ألاَّ تلعب هذه اللعبة بالنسبة إلى هذا البلد العربي كجزءٍ من الصراع في أوكرانيا، وأن عليها ألاَّ تفكر حتى مجرد تفكير بأن يخرج الروس من هذا المولد السوري بلا حمّص، فهذه مسألة متعذرة ومستحيلة ولا يمكن أن يقبل بها الرئيس الروسي حتى وإنْ أدت الأمور إلى استخدام القوة العسكرية.
وهنا فإن المؤكد أن الولايات المتحدة تعرف أنه بإمكان روسيا أنْ «تُمسكها» من ذراعها التي تؤلمها، فهي لا تزال قادرة على تعطيل الصفقة الإيرانية – الأميركية المتعلقة بالشروع النووي الإيراني، ولهذا فإنه عليها، أي على واشنطن، أن تأخذ المصالح الحيوية الروسية بالنسبة إلى التغيير الذي يجري الحديث عنه الآن في سوريا بعين الاعتبار، وسواءً على أساس «جنيف1» والمرحلة الانتقالية المطروحة أو على أي أساس آخر يجب التفاهم بشأنه مع المعارضة السورية الفاعلة والموجودة على الأرض وفي الميدان.
إن هناك بدايات تحول في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية بات واضحًا وملموسًا، وهذا يجب الاستعجال في التقاطه وتشجيعه وتوفير ضمانات فعلية للرئيس بوتين، من المفترض أن تساهم فيها بعض الدول العربية وفي مقدمتها بعض دول مجلس التعاون الخليجي، بأن المصالح الحيوية والاستراتيجية لبلاده في سوريا لا يمكن المس بها على الإطلاق، بل وبالإمكان إضافة ضمانات جديدة إليها وبخاصة في المجالات الاقتصادية في الشرق الأوسط وبعض دول هذه المنطقة.
التعليقات