علي الخبتي

سعود الفيصل الرجل المخضرم الذي عايش أربعة ملوك في بلادنا حظي بثقتهم ورضاهم وكان خير معين بعد الله لهم في التعامل مع الملفات الشديدة السخونة في تلك العهود لتتخطى بلادنا الكثير من الصعوبات

&


من عام 1975 إلى عام 2015 أربعون عاماً حمل سعود الفيصل هموم وطنه وأمته ينافح عنهما بجلد وصبر وكفاءة واقتدار.. أربعون عاما عاش يتنقل في طول الكرة الأرضية وعرضها، وفي كثير يتنقل في عدة قارات في رحلة واحدة لحضور عدة اجتماعات ومنتديات ولقاءات تتخللها مناقشات ومفاوضات وجدل لا يُحتمل.


أربعون عاما عاشها في الذود والدفاع عن وطنه وأمته، وهو يواجه المتناقضات والمشكلات ويغوص فيها بعقل الأذكياء ومهارة الخبراء ومنطق العارفين.. أُطلقت عليه ألقاب عديدة منها مهندس الخارجية ورجل المهمات الصعبة وعميد الدبلوماسيين..
سعود الفيصل الرجل المخضرم الذي عايش أربعة ملوك في بلادنا حظي بثقتهم ورضاهم وكان خير معين بعد الله لهم في التعامل مع الملفات الشديدة السخونة في تلك العهود لتتخطى بلادنا الكثير من الصعوبات التي واجهتها، بما كان له بعد الله من مساهمات فاعلة في الخروج من تلك الصعوبات والتعامل مع تلك المشكلات بأقل الأضرار.. وكان من أبرز تلك الملفات القضية الفلسطينية والقضية اللبنانية وملف الطائف وحروب الخليج وما تخللها من غزو للعراق ومشكلات الربيع العربي ومشكلة اليمن، وما تخلل كل تلك الملفات من صراعات ومواجهات وخلافات على كل المستويات.. عاش السياسي المخضرم سعود الفيصل قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي بكل تفاصيلها، بدءا من القضية الفلسطينية ثم ملف القضية اللبنانية واتفاق الطائف وحربي الخليج الأولى والثانية، والغزو العراقي للكويت والحروب الإسرائيلية ضد العرب والأزمة السورية والأزمة اليمنية.. وسجل خلالها حضورا فاعلا على جميع المنابر الإقليمية منها والدولية والعالمية.. ليس هذا فقط بل حظي بإعجاب وتقدير الدبلوماسية على كل تلك المستويات بشكل لا أظنه يتكرر ببساطة لما يتمتع به من خبرة طويلة وممارسة هادئة وعميقة ومؤثرة في زمن مختلف تعيش فيه أمتنا أحلك فتراتها كما عبر هو بنفسه حينما داعب مجلس الشورى أثناء حضوره إحدى الجلسات قبل تنحيه بوقت قصير حينما قال: "أتيت إليكم وأنا لا أزال في فترة النقاهة بعد أن تعرضت لعملية جراحية كان حالي فيها أشبه بحال العرب اليوم".


كان رحمه الله يتعامل مع القضايا بحس الدبلوماسي وحنكة وصلابة القائد، وكان طرحه مقنعا بسبب تعمقه في استخدام الشواهد والأدلة والأمثلة النابعة مع عمقه المعرفي وطول خبرته مما أكسبه صلابة في الموقف وقوة حجة في الدفاع عن قضايا وطنه وأمته.. ولقد عبر العديد من قادة دول العالم عن رأيهم في الأمير سعود الفيصل وقال أحدهم: "إن سعود الفيصل أدهى من قابلت في حياتي"، كما عبر آخرون بعبارات مشابهة إعجابا به وتقديرا له. شُهد للأمير سعود الفيصل رحمه الله أنه كان جادا ولا يسمح بمضيعة الوقت والتهريج.. وكان يتمتع بشجاعة فائقة في التعبير عن رأيه بكل صراحة.. وكان يعترف بالأخطاء ويعطي الطريقة والأساليب الكفيلة بحلها.. كان دقيقا في الوقت ويحترمه.


ومن شواهد شجاعته أنه كان يواجه ممثلي القوى الكبيرة بانتقادات حادة ويعرض عليهم أخطاءهم مدعومة بالشواهد والأدلة بطريقة لا يستطيعون معها دحض تلك الحجج والشواهد.. وكان ذلك واضحا في المفاوضات حول إيران والعراق عندما تحدث عن سياسة الغرب تجاه إيران وكيفية تكريس تلك السياسة وتعميقها للانقسامات الطائفية وربما تسليم الشرق الأوسط لإيران.. أما القادة العرب فهم معجبون بشخصية الأمير سعود الفيصل أيما إعجاب وقد عبر رئيس وزراء البحرين عن ذلك الإعجاب عندما قال: " فطنة الفيصل ومواقفه الوطنية والقومية أسهمت في ترسيخ مبادئ القيم الدبلوماسية والسياسية وحققت النجاح في الكثير من القضايا، وللبحرين النصيب الأكبر من عناية الفيصل السياسية." وللأمير الراحل مواقف فاعلة وجرئية وموضوعية في القضايا التي تتم مناقشاتها في اللجان العربية والإسلامية التي يتمتع بعضويتها ومنها اللجنة العربية الخاصة، ولجنة التضامن العربي، واللجنة السباعية العربية ولجنة القدس واللجنة الثلاثية العربية حول لبنان وغيرها. وكانت له -رحمه الله- مساهمات ومواقف حاسمة وقوية وذكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م.. حيث تم تشكيل عدة لجان بإشرافه الشخصي تجتمع في الرياض وواشنطن لتوضيح العديد من الحقائق وصد الهجمات والمؤمرات التي كانت تحاك ضد المملكة بطرق علمية منظمة ومقننة كان لها الفضل بعد الله في توضيح الحقائق والملابسات التي أدت إلى إبعاد بلادنا من التهم التي ألصقها بها أعداء المملكة، وأدت تلك الجهود بما تضمنته من محتوى مقنع إلى عودة العلاقات إلى مستواها الطبيعي مع الولايات المتحدة الأميركية، وقد شاركت في بعض تلك اللجان وشاهدت وتعلمت من الحكمة والحنكة التي كانت تدار بها تلك اللقاءات والاجتماعات حتى ما كان منها شرسا وقويا وهجوميا ومنفعلا .. وأذكر من ذلك كيف كان التعامل بدبلوماسية حكيمة ومتزنة مع أحد مراكز "الثنك تانكس" التي درست مناهج المملكة وخلصت بطريقة فيها تحيز وانحياز (BIAS) إلى أن مناهجنا تدرس الكراهية والتطرف والإرهاب، وقام ذلك المركز بالتحريض ضد المملكة عندما اجتمع مع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لعرض نتائج تلك الدراسة، وكذلك الاجتماع مع أعضاء الكونجرس للتحريض ثم عرض نتائج تلك الدراسة في مقال لرئيسة فريق الدراسة بالجريدة الواسعة الانتشار الواشنطن بوست، وتم التصدي لكل ذلك بشواهد وأدلة وبطرق دبلوماسية هادئة وواثقة..
رحم الله الأمير سعود الفيصل وأسكنه فسيح جناته لقاء ما قدمه لوطنه وأمته وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان.
&