&عبد الرحمن الحبيب

&
هل يمكن أن تتفاوض أمريكا أو أي دولة مهمة مع داعش ولو بعد حين؟ التجارب التاريخية تحكي أن ليس كل الجماعات الوحشية المتمردة تنال عقاب المجتمع الدولي إذا عجز عن دحرها، بل قد تنال الاعتراف الدولي إذا خففت وحشيتها ودجَّنت نفسها.

ورغم ما بهذا التساؤل من صدمة لمشاعرنا الإنسانية إلا أنه واقع الحال في عالم السياسة المبني على المصالح وليس المشاعر.. يقول مهندس الوحدة الألمانية بسمارك، الملقب بالمستشار الحديدي: «ليس بالخطب وقرارات الأغلبية تم تقرير الإجابات على التساؤلات الكبرى للعصر، بل عن طريق الحديد والدم».

&&

خذ مثلاً طالبان التي حكمت أفغانستان من 1996 إلى 2001 وكانت معزولة دولياً حتى تم إسقاطها من قبل الأمريكان الذين نعتوها بالصفات الموجهة نفسها لداعش الآن، فقد عادوا وأيدوا ضمنياً أو مباشرة مفاوضات الحكومة الأفغانية مع طالبان، وإن تواروا عن الأنظار، وإن استخدموا عبارات تحفظ ماء الوجه كالتفاوض مع المعتدلين من قادة طالبان..

أما داعش فإن الخيار الحالي الظاهر هو مواجهته عسكرياً في مواقعه بالعراق وسوريا. للقيام بذلك ينبغي أن نعرف من يملك القدرة على ذلك، هل هو الجيش العراقي أم البشمركة أم الحشد الشعبي أم الصحوات، أم جيش النظام السوري أم معارضيه.. أو ربما تركيا؟ لا يبدو أنَّ أيَّاً من هذه القوى قادر أو راغب في ذلك.. يبقى الشرطي الدولي: أمريكا.

الإجابة الراهنة للمسؤولين الأمريكان واضحة تماماً، رغم أنها تبدو غامضة لدى أغلب الكُتَّاب العرب وتحليلاتهم «الأمنياتية». الإدارة الأمريكية الحالية تم انتخابها على أسس عدة، منها الخروج عسكرياً من مستنقع الشرق الأوسط؛ وصار تركيزها الإستراتيجي على توسيع الشراكة الاقتصادية مع الدول العظمى اقتصادياً، أما الضربات الجوية التي تنفذها ضد داعش فهي مناورات لتحسين مواقع حلفائها وتحجيم داعش وليس سحقه، تاركة قرار الحسم للقوى المحلية..

إذا لم تستطع القوى المحلية أو الإقليمية في العراق وسوريا على دحر داعش، وإذا لم تهتم أمريكا بمواجهة عسكرية شاملة مع داعش، فما المتوقع أن يحصل؟ يجيب على ذلك مقال طويل لبروفسورة القانون روزا بروكس، تضعه فورين بوليسي هذه الأيام في مقدمة واجهتها كصوت مميز وصادم! بعنوان: «صناعة دولة بالحديد والدم»؛ فانطلق الصوت مدوياً في الغرب..

خلاصته أن الفظائع البشعة لداعش تشابه ماضي تكوين عشرات الدول المحترمة الآن، فأعماله ليست مجرد جنون بلا رؤية غير الذبح كما يقول أوباما. بل من الحكمة الافتراض أن قيادة داعش تفهم دروس التاريخ الوحشية. ويمكن للوقت تخفيف وطأة أشد الجرائم فتكًا. وإذا ما سمحنا بمرور عقود قليلة، فقد يتم غفران الفظائع من قبل المجتمع الدولي كما حصل مع كثير من الحركات الوحشية. وسيطمح داعش لتشكيل دولة «حقيقية»، معترف بها ولو على مضض. وبالتالي، فربما الأفضل لنا التحول لإستراتيجية الاحتواء، بدلاً من استمرار محاولاتنا غير الفعالة لتدمير داعش.

ورغم كآبة هذه الفكرة، إلا أننا إذا ما توقفنا عن قصف دولة داعش، فقد تقوم بترويض نفسها أسرع من ترويضنا لها. وربما يستنتج قادة داعش، مثل عدد كبير من الأنظمة الهمجية السابقة، أن الأعمال الوحشية تولد الفوضى الداخلية والتمرد عليهم.

هناك ثغرتان كبيرتان في هذا الطرح؛ أولها أنه لا تبدو أي ملامح بأن قادة داعش يميلون لتخفيف أعمالهم الوحشية فضلاً عن أن إمكانية تقبلهم للتفاوض معدومة حتى مع المجموعات المتطرفة التي انبثقوا منها أو التي تشابههم. ليس هذا فحسب، بل إن داعش حظي بفرصة لم يحظ بها أي تنظيم إرهابي من غض الطرف (وأحياناً مساندته) من دول وتنظيمات كان بإمكانها تدميره أو تحجيمه، ومع ذلك لم ينتج عنه ما توقعه المقال من أن ترك التنظيم لحالة سيؤدي إلى تدجينه على غرار التجارب التاريخية.. حصل هذا عند تحرير مدينة الرقة حين تعاملت معه التنظيمات المعارضة كافة بحيادية فانقلب عليها.. وحصل أسوأ منها عندما تعاونت معه في الموصل بقايا حزب البعث والنقشبندية فغدر بهما..

كما يغفل هذا الطرح أن الأمثلة الحديثة التي طرحها عن تنظيمات وحشية تدجنت ونالت تدريجياً الاعتراف الدولي، قد حصرت أعمالها في مناطقها أو مجتمعاتها.. مثلاً طالبان لم تقم بأعمال خارج أفغانستان بينما داعش يرى في نفسه تنظيماً أممياً يريد احتلال روما ورفع رايته في البيت الأبيض الأمريكي!

هذا البعد الأممي انبثق عنه أحد ثلاثة عناصر أساسية أدت إلى التنامي السريع لداعش (حسب التقرير الأخير لوزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب)، وهو المقاتلون الأجانب بعد العنصر الأول وهو التمويل الهائل المتوفر لداعش من النفط. توجه المقاتلين الأجانب للجماعات المتطرفة ليس جديداً، لكن النزاع في سوريا شهد مشاركتهم بصورة لم يسبق لها مثيل. وما ساعد على استقطاب هؤلاء هو العنصر الثالث القائم على إستراتيجية متطورة في وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، التي مكنت داعش عبر تبنيه العنف الوحشي من جذب انتباه العالم.

الثغرة الثانية هي أن المقال يكثر من «الحكمة» بتأثير عامل الوقت في تدجين داعش عندما نتركها لحالها في مناطقها، لكن ما هو مقدار الوقت من الألم والأسى الذي يمكن تحمله جراء الكوارث والضحايا التي تنتجها أعمال داعش.. يشير المقال أكثر من مرة إلى عقود من الزمن.. فأين العقلانية إذا كانت الأعمال الوحشية لداعش أكثر ترويعاً يوماً إثر يوم؟ يجيب المقال أن تكوين الدولة وتوطيد السلطة كان دائماً عملاً دموياً بحسب رصد المؤرخين وعلماء السياسة والاجتماع.. بينما يميل بقيتنا لتجاهله، أو إزالته من أدبياتنا.

بريطانيا أقامت إمبراطورية على تجارة الرقيق. ألمانيا ارتكبت أكبر إبادة جماعية في التاريخ البشري. فمن ذا الذي يقول إن داعش لا يمكن أن يكون حليفاً للولايات المتحدة في يوم من الأيام؟ هكذا بالخط العريض يضع مقال بروكس مقدمته المدوية..

هل من الممكن أن يحصل داعش على شرعية دولية من نوع ما يوماً ما؟ نعم ممكن في عالم السياسة، لا سيما أن داعش يحاول التمظهر كمشروع دولة، لكنه لا يتوانى عن الظهور كمشروع انتقام دموي ضد الجميع لجذب المتطرفين الناقمين، فلا يترك لك بصيص أمل أو حتى تأمل بخيار التفاوض..