عبدالله العوضي
التطرف الديني والتطرف الفكري والتطرف السلوكي كلها مؤشرات على ظاهرة مرَضية عميقة وليست فقط مشكلة اجتماعية يمكن التعامل معها عبر المؤسسات المدنية المعروفة في شتى دول العالم.

عندما ترى أو تسمع عن شاب متدين بدرجة «حمامة المسجد» لفترة وجيزة أو طويلة من عمره، أي بمعنى أنه قضى زهرة شبابه في غمار الدين وكأنه لا يعرف من الحياة إلا الجانب الديني، وهو ما لا علاقة له بالاختصاص الشرعي أو الفقهي المعروف لدى الأنظمة التعليمية في قطاع التعليم العام أو الخاص في أي مجتمع. ومن الملاحظ أن أصحاب التخصصات الشرعية البحتة بمعنى خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس الدينية قل ما ينخرطون في حل فعال للتطرف سواء كان عبادة أم معاملة أم غير ذلك من مجالات الحياة المتنوعة.

من هنا يجب على المعنيين معالجة هذه الشرور الطارئة على مجتمعاتنا في العالم العربي والإسلامي والتي تطاير شررها باتجاه الإرهاب والقتل وأشياء مخترعة أفظع مما كنا نقرؤه أحياناً في بعض أزمنة الأنظمة الظالمة والمظلمة في الوقت ذاته.

وإذا بتلك «الحمامة» انقلبت على وجهها وخسرت الدنيا والآخرة في ضربة واحدة، فإذا به يجلس في زاوية مظلمة في «بار» من «بارات» أوروبا، حتى يراه من هذا دأبه من الأصدقاء والأصحاب مندهشين من وجود هذا في ذاك المكان المليء «بالرجس والرجز» من «عمل الشيطان فاجتنبوه» إلا أن «الحمامة» يرفض نصيحة الصديق القريب والودود ويتمسك بتلابيب الطاولة والكؤوس المتدحرجة أمامه وقد عض عليها بالنواجذ.

هذه صورة قديمة متجددة في كل الأزمنة، والفرق أنها لم تكن ظاهرة، بل مشكلة آنية تنتهي بنصيحة مخلص أو حكم قاضٍ منصف، إلا الآن، فلا هذا ولا ذاك نافع حتى غدت ظاهرة عالمية دخلت فيها تحالفات شتى لوقف هذا النزيف الإرهابي الدموي من قلب الأمة العربية والإسلامية الذي لا يحتمل نزيفاً آخر، وهي ما زالت تعاني نزف إسرائيل وتماديها في ارتكاب الجرائم، جريمة تلو الأخرى بلا رادع ولا مانع من أحد من العالمين.

وأخطر ما ارتكبه المتطرفون الإرهابيون في العالم أجمع أنهم مسخوا كل المشتركات الإنسانية من الوجود، وبدؤوا في وقف كل ما يمت إلى التصرفات الإنسانية بصلة.

كان هذا التطرف قبل قرون مضت في التاريخ العربي الإسلامي تصرفات سلوكية من أفراد متشددين في تطبيق أحكام وتعليمات الشريعة الغراء على أنفسهم أو حتى ممن هم قريبون من أحوالهم، ولكن دون أن تتحول هذه المسلكيات إلى جماعات تحمل بالإضافة إلى سلاح الفكر المتطرف، أسلحة حربية أخرى مما تنتجه المصانع المعاصرة، تحارب بها بني جلدتها وبنسبة مئوية عالية أولاً ومن ثم تنطلق برصاصاتها القاتلة إلى الآخر الذي لا تعترف به ولا تقر بوجوده ولا في الخيال.

الإسلام عندما حكم العالم أو عولمه إن صح التعبير لم يلغ أي طيف إنساني فيه نبض من الحياة الربانية بالفطرة، وليس شرطاً أن يكون للدين تأثير فيه، بل هو إنسان كريم عند الرب الأكرم فلا يحق بعد ذلك لكائن من كان أن يهين هذا المكرم عند الرب الأكرم بأي دعوى أو مسمى، وكل من يخالف ذلك ليس له بالدين الإسلامي بالذات رابط ولا صلة فهو بعيد عن الإسلام بعد المشرقين والمغربين.

إن سقوط معادلة المشترك الإنساني عن بؤرة اهتمام الإسلام جريمة لا تقل عن أي تهاون في الواجبات والفرائض الدينية المعروفة منذ نزلت الفرائض من السماء لعمل مفعولها على الأرض، ومن ذلك احترام وتقدير كل مشترك إنساني بين الإسلام وغيره من الأديان السماوية والبشرية منها بلا أدنى تفرقة لأنه ضمن حرية الاختيار المطلق فلا يضير الإسلام شيئاً لأنه خارج من محفظة الشخص الذاتية فلا خوف على الإسلام منه.

إنما التخوف الحقيقي الجاد يأتي من جماعات متطرفة اتخذت من سلاح الإرهاب المادي والمعنوي وسيلة للضغط على كل المشتركات الإنسانية لإجبارها على الركوع تحت أقدام التطرف بوسائل التفجير والتكفير وقطع الأعناق والأرزاق بلا وازع ولا رادع من قانون عالمي، ولا اعتراف بأن الإسلام جاء من عند أرحم الراحمين بكل دابة تدب على الأرض تبحث عن الأمن والأمان والاستقرار حتى تؤدي وظيفتها الفطرية بكل حرية، فما بال الإنسان الذي يراد أن ينحصر بين قوس التطرف بكل ما فيه من إفرازات قيحية فكرية لا تمت إلى الحضارة الإنسانية بصلة قيد أنملة.

جاءت الأديان لتقوية روابط المشتركات الإنسانية وتقليل مساحات الاحتكاكات الدامية فيما بينها، وكان الإسلام على رأس هذه الأديان، بل هو مسك ختام الجميع في فصل تشريعي نزيه يعطي كل ذي حق حقه وإن كان هذا الإنسان غير مؤمن من الأصل، فله حق في الإسلام أن يرأف به ويؤدي إليه حقوقه كإنسان من وحي الشريعة وأحكام الدين، فلا يضام في الإسلام العام إنسان بالمطلق.