يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل

يعاني الفكر العربي الإسلامي، منذ قفل باب الاجتهاد، بعد انتهاء العصور الكلاسيكية، من استبطان المعجزات والكرامات، في نظرته لقوانين الطبيعة وآليات الاجتماع. الفكران الصوفي والشيعي استبطنا المعجزات والكرامات، حتى غرقا في الخرافة إلى الأذقان فهم مقمحون؛ أما الفكر السني، فهو وإن كان لا يقارن بالفكرين السابقين، من حيث استبطان الخرافة، إلا تضعضع النظرة الواقعية لديه جعلته يقترب من تخوم انتظار تأثير المعجزات على أحداث الطبيعة والاجتماع. والنظرة، أو الفلسفة الواقعية، التي نتحدث عنها اليوم، هي تلك الفلسفة التي تنظر إلى العالم، بشقيه: الطبيعة والمجتمع، على أنه محكوم بقوانين وآليات، يمكن تتبعها، ورصدها، ومن ثم معرفة سيرورتها، وصولا إلى التحكم بها.

من شبه المجمع عليه عند أهل السنة والجماعة أن المعجزات انتهت مع ختم النبوة، إذ إن الله سبحانه وتعالى لم يخرق نظام الطبيعة الذي وضعه حين خلقها، إلا حينا من الدهر، لغرض خاص بالنبوة. بل إن كفار قريش لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بمعجزات خارقة لسنن الكون، رد عليهم مرة بأن القرآن لوحده هو المعجزة، ومرة أخرى بأنه مجرد بشر رسول. قال تعالى: "وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون". وقال تعالى: "وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا".

يجب أن ندشن في التعليم، وفي الخطاب التعليمي بشكل عام، ما يؤسس في ذهنية النشء أن سنن الطبيعة، وكذلك سنن الاجتماع البشري، تسير على وتيرة ضرورية لا تتغير ولا تتبدل، وأن على الإنسان، بعد أن يستعين بربه ويسأله العون على قضاء حاجاته، أن يأخذ بها..

إن الحق الذي لا عوج فيه ولا أمْتَا، أن خرق الله تعالى لنظام الطبيعة (=المعجزات)، كان لغرض يخص النبوة فقط، وفي سياق وظرف محددين، ثم عادت سنن الكون تجري في مجراها الذي أجراها فيها بارئها، لا تتخلف ولا تتبدل، "سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا".

كان الأشاعرة قد أسسوا في الفكر الإسلامي ما عبروا عنه بـ(العادة)، وهي تعني عندهم أنه لا شيء يؤثر في شيء، ولا علة تؤثر في معلولها؛ فالنار مثلاً ، ليس لها أثر في الإحراق، وما يراه الناس من إحراق النار، إنما هو عادة وإلف فقط، وليس ناشئًا عن علة في النار. فالله يخلق الاحتراق باطراد، كلما التقت النار مع ما تحرقه، دون أن يكون للنار أثر يُذكر. وهكذا لا حقيقة لطبائع الأشياء. وهذا معناه أيضا إنكار لعلاقة الأسباب بمسبباتها، وأن التلاقي بينهما ما هو إلا عادة، إذ ليس هناك أي علاقة ترابطية، إلا ما يشاهده الإنسان بعينه، والمشاهدة ليست حجة. بمعنى: أن اطراد الموجودات وتسلسلها ليس قائمًا على الترابط (العليّ)، بل إن العادة وجريانها هما السبيل في إحساسنا بالتعاقب.

ولقد استنتجوا من ذلك، أن قدرة الله تعالى لا تستبين ولا تتضح إلا إذا قلب طبائع الأشياء، كأن تنقلب النار ماء، والبيضة تمرة، وهكذا. جاء ابن رشد الحفيد فقلب الطاولة عليهم، عندما أكد أن قدرة الله تعالى وحكمته ومشيئته لا تتضح إلا في اطراد قوانين الطبيعة. وهكذا، فإن روعة واطراد المصنوع، إنما تدل على قدرة وحكمة الصانع.

من بين سلفنا الصالح، يأتي عالم الاجتماع، ابن خلدون، ليؤسس قبل ما ينيف على ست مئة سنة من الآن، واقعية سياسية واجتماعية فذة. ولقد تسلح ابن خلدون لواقعيته بحقيقة أن لا مكان للمعجزات التي انتهت بنهاية النبوة، وأن من أراد شيئا، سواء من الطبيعة أو الاجتماع، فليأخذه بسننه/ قوانينه. ومن المناسب أن نأتي بأمثلة لواقعيته التي عبر عنها في (المقدمة).

المثال الأول، ما يتصل بالمهدي المنتظر؛ إذ بدأ ابن خلدون، وعلى طريقة السلف، بنقد الأحاديث التي جاءت في المهدي، وبعد أن فندها (إسنادياً)، عاد لُيعْمِل (واقعيته) السياسية بالقول إن المهدي حين يخرج لا يمكن أن يكون ذا قوة ومنعة إلا أن يكون في عصبية، فإن يكن في غير عصبية، فلا يمكن أن يكون قويا ومسيطرا لوحده، إذ إن ذلك يتجاوز السنن الطبيعية والاجتماعية. وبعد أن يُذكِّر بالقانون الاجتماعي الذي أكد عليه في البداية، وهو أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، ويذكر بالحديث النبوي "ما نبي بعث إلا في منعة من قومه"، عاد ليقول إنه لما كانت عصبية الفاطميين قد انتهت، فلا وجه للقول بخروج مهدي فاطمي، وأنه إن خرج فلا بد أن يكون في منعة (قوة كبيرة يستطيع أن يقهر بها خصومه)، "وأما على غير هذا الوجه، مثل أن يدعو فاطمي في أفق من الآفاق، من غير عصبية ولا شوكة، إلا مجرد نسبه إلى أهل البيت، فلا يتم ذلك، ولا يمكن". وهكذا، فإن المهدي، لو قدر له أن يخرج، فلن يكون خروجه بمعزل عن سنن الطبيعة وقوانين الاجتماع.

المثال الثاني، قصة خروج الحسين بن علي رضي الله عنه على يزيد بن معاوية؛ فبرغم فضل الحسين، وكونه ريحانة رسول الله، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، وأن يزيد "متعين فسقه"، كما هي عبارة ابن خلدون، إلا أن ذلك لم يجعل ابن خلدون يسارع إلى القول إنه، أي الحسين، مؤيد من السماء، أو أن خيلا بيضاء كانت تحارب معه، بل عده مخطئا، لأنه لم يراع توازن القوى الذي كان في صالح يزيد؛ ولذلك، انتصر يزيد وانهزم الحسين.

المثال الثالث، قصة خروج ابن الزبير أيضا على عبدالملك بن مروان، فبرغم فضل ابن الزبير، وكونه ابن حواري رسول الله، وابن ذات النطاقين، إلا عدم توفر الشرط الموضوعي لخروجه على عبدالملك (أي القوة اللازمة)، جعله ينهزم أمام عبدالملك، الذي انتصر لأن موازين القوى كانت تميل لصالحه.

هكذا، يجب أن ندشن في التعليم، وفي الخطاب التعليمي بشكل عام، ما يؤسس في ذهنية النشء أن سنن الطبيعة، وكذلك سنن الاجتماع البشري، تسير على وتيرة ضرورية لا تتغير ولا تتبدل، وأن على الإنسان، بعد أن يستعين بربه ويسأله العون على قضاء حاجاته، أن يأخذ بها.

هكذا هي النظرة، أو الفلسفة الواقعية، التي تحلل، وتكيف مسائل الطبيعة والاجتماع وفقا لشروطها الموضوعية البحتة، دونما تعلق بمعجزات أو كرامات، أو أي (ماورائيات). ولو أننا أسسنا ذهنيات النشء على تلكم الفلسفة، لما صار قطاع منهم نهبا للجماعات الإرهابية، تتخذهم سلما للوصول إلى مآربها، بعد أن تعدهم أن الخوارق والمعجزات بانتظارهم.