طيب تيزيني

 تمثل الطائفية ظاهرة اجتماعية طبيعية، خصوصاً إذا تناولناها في حالتين اثنتين نشأتا بمثابتهما نتاجاً للحروب والأزمات داخل مجتمعات لم تخرج بعد من الحاضنة الاجتماعية الاقتصادية والثقافية الطبقية المختلطة ببقايا ما سبقها من تخلف تاريخي. وبصورة عامة يمكن القول إن هذه الظاهرة خصوصاً في الفترات التي واجهت أحداثاً كبرى مع ظهور المجتمعات الرأسمالية وانتقالها إلى ظاهرة الاستعمار، فها هنا لم تعد المجتمعات المتأخرة تاريخياً قادرة على أن تختط طريقها أو طرقها على نحو مستقل عن الاستعمار الحديث المتدفق إلى الشرق خصوصاً. فقد بدأت تنشأ شروخ في المجتمعات المتخلفة بالقياس إلى وتائر التطور التاريخي، الذي خضعت له بلدان الشرق المذكور وبلدان أخرى، وبذلك وجدت أسباب التدخل الخارجي في تلك البلدان بأشكال متعددة كالعنف العسكري والتدمير الاقتصادي السياسي إضافة إلى التفكيك الثقافي وغيره.

كانت تلك بدايات لتعاظم قدرات تلك البلدان باتجاه الحقل الجديد الذي راحت تفككه وتبعثره، إضافة إلى ما أنتجته من وسائل التزييف الموجه للبلدان الأخرى، تزييف تاريخها الاقتصادي والسياسي والثقافي. ومنذ ذلك التاريخ الجديد، تاريخ الاستعمار الغربي الرأسمالي، أنتج تاريخاً جديداً يقوم على الهيمنة والتفكيك والإذلال لما شكّل العالم، الذي أصبح مُحاصراً تحت سيطرة الأجنبي، وثمة ملاحظة أخرى تتمثل في أن بدايات ذلك التدخل أتت متوافقة مع إرهاصات أولية من تاريخ دخول العالم «الشرقي» في بعض زوايا التقدم الحديث والضعيف، بحيث كان الرهان على الاستمرار في تلك الإرهاصات، ومن ثم كان تقدم الاستعمار الغربي بداية لإرهاصات التقدم البطيء في بلدان الشرق، إضافة إلى أن وتيرة تقدم الشرق راحت تتراجع إلى صفر، في حين راح تقدم الغرب المعني يمعن في تسارع وتيرة القانون المذكور آنفاً، ونعني نمواً مفتوحاً لهذا الغرب، وتراجعاً درامياً للشرق إلى درجات تعمّق تبعيته وارتباطه بذاك الغرب.

وقد ازدادت الخلافات والصراعات داخل دول عربية وخاصة بين طوائف إلى درجة أنتجت فيها هذا الرأي، الذي صرح به الصهيوني «أشكول»، في قلب «الكنيست» الإسرائيلي عام 1966، حيث قال ما يلي: «نحن في إسرائيل نعتمد.. في أمننا الخارجي على سلاحين اثنين هما: سلاح الطيران أولاً، والثاني هو الخلافات داخل الدول العربية».

فإذا كانت الصراعات والخلافات محتدمة داخل بعض البلدان العربية في حينه، فهذه الخلافات بين البلدان العربية قائمة الآن أيضاً بشكل أكبر وأخطر وخاصة في بعض الدول التي تشهد صراعات محتدمة وحالة عدم استقرار عارمة، فكأن الصهيوني «أشكول» في مزاعمه قد أصاب الحقيقة التاريخية، فتلك الخلافات كانت قد أسست للقوة التي جعلت إسرائيل متلاحمة من الداخل، كما من الخارج، في أحضان النظام الغربي الاستعماري. أما كيفية ظهور تلك الخلافات بين العرب، التي تحدث عنها «أشكول»، فقد أخذت صيغاً متعددة، منها إنتاج الصراعات في قلب الطوائف في العالم العربي كله، لأن ذلك ينتج استقطاباً واحتراباً بين المنتمين لمختلف الطوائف والأعراق والتوجهات والأديان.

ذلك كان مدخلاً أو أحد المداخل إلى تفكيك البنية الدينية والمدنية والعلمانية ذات الحضور في العالم العربي، وقد كان مساعداً في إنتاج هذه الحالة، التي سيطرت في فترات تاريخية في المجتمعات العربية، ومارست عن طريق ذلك دوراً في تأجيج بعض الصراعات والنزاعات. وحتى الآن هناك كثير من القضايا المعلقة في مجالات متعددة. لقد ظل الشرخ قائماً بالنسبة إلى كثير من القضايا في حقول السلطة والحقوق والمواقع التعليمية والتربوية. والفاجعة الأكثر خطورة في مرحلتنا هذه تتمثل فيما يُنتج من آراء مدنية ودينية وطائفية، ربما نقول إنها تعبر في أيامنا هذه عن أكثر الصراعات تخلفاً ودونية، وهي الصراعات بين الطوائف.

واللافت المؤسف أن تجري صراعات لم تكن ذات حضور في التاريخ الماضي، خصوصاً في تاريخ المسيحية العربية، وكذلك الإسلامية العربية، وتزداد نسب الطائفية في العالم العربي إلى درجة أن هذه النسب تخرج عن كل معهود التاريخ، الذي مثل فترات طويلة من تاريخ المسيحية والإسلام في التاريخ العربي. فثمة علامات فارقة في تاريخ المسيحية والإسلام تتضح فيها مواقف مهمة من الأخوة الإنسانية بين الفريقين.