نسيم الخوري

أي شكل ستستقر عليه دولة مثل تركيا/ أردوغان في عقد مخيف لم يستقر بعد من آثار التدين، والإرهاب، والتشوهات، وضعضعة الدول من داخل؟ هو/هي تظهر كأنها تخلص دستورها، وقوانينها، ومجتمعاتها المتنوعة مما علق بها من الغرب؟ تستحق تلك التجربة المغامرة السؤال عن دولة لطالما سكنتها عقدة دخول أوروبا التي أعيتها، وأوقفتها طويلاً أمام باب الغرب المفتوح على مصراعيه. لكن الباب يحشر وراءه الأعداد المخيفة والهائلة من النازحين العرب والمسلمين، والمفتاح في جيب الرئيس التركي الخارج(؟) من استرضاء تلك القارة، ومتابعة شروطها ومتطلباتها الكثيرة.

بالأمس، كانت أوروبا علمانية، ولكنها اليوم تحت وطأة الإرهاب تعاين أساليب التفجير، والطعن، والدهس، والتحدي، والتخريب. غرب مشدود الأعصاب متدين، بالمعنى السياسي لا الديني بالطبع. إن أضخم ما يخشاه المفكر المحدق في ظلامات التاريخ، أن يولد هذا الواقع الجديد في تعميم الإرهاب مجنوناً معاصراً شبيهاً بهتلر، تفرزه المظاهر والنفوس العنصرية المريضة بين الغرب وبعض المسلمين بشكل عام. 
يفترض فتح حدقات الفكر لمعاينة «إشكاليات»، بل مخاطر المساكنة الطبيعية، والتجاور بين «المسلمين» و«المسيحيين» في بلاد الغرب بكونها تخرج من أنساق القيم إلى أنساق الأثمان، ومن العقل إلى العاطفة، ومن الحكمة والحلم وتذكر العبر المرّة القديمة إلى التهور والجشع والاقتصاص والانزلاق إلى ما هو أكثر من خطر بين المجتمعات التي تدعي التحديث، ولكنها بالمعنى الحضاري تبدو اليوم بعيدة عن الحداثة. وشتان ما بين الحداثة والتحديث، أو ما بين اللب والقشرة. لنبق في تركيا نموذجاً، ونسأل: ماذا يعني الإسلام لتركيا؟
1 - كان على تركيا مصطفى كمال أتاتورك لدى إعلانه الجمهورية التركية الجديدة، مطعمة بالقوانين الفرنسية والإيطالية والسويسرية، مواجهة خمس قوى: الأرمن في الشرق، والفرنسيون في كيليكيا، وإيطاليا جنوب الأناضول، اليونان في أزمير، وبريطانيا في إسطنبول. خرجت تركيا آنذاك ببصمات غربية. وخطا بها أتاتورك نحو الغرب قاطعاً صلاتها بالتاريخ والثقافة الإسلامية. وضع لها قوانين حلت محل الشريعة الإسلامية، وفصلت بين الدين والدولة. مكّن وضع المرأة فألغى تعدد الزوجات، وفرض خلع الحجاب في المدارس والدوائر العامة، وفي الجامعات، ومنحها حق الطلاق والترشح للانتخابات كالرجال، واعتمد التقويم الغربي تقويماً رسمياً للبلاد، وفرض استعمال الحروف اللاتينية مكان العربية في الكتابة، وحول جامع آيا صوفيا إلى متحف. كما ألغى الخلافة الإسلامية، ووزارتي الشريعة والأوقاف، ومنصب شيخ الإسلام، وأقفل الزوايا الدينية، وتكايا الدراويش، ميسراً ترجمة القرآن والآذان إلى التركية.
وقد حصّن خطاه بقوة العسكر، إذ منحه الحكم في مجلس الأمن التركي الأعلى. فجاءت الدولة موصوفة بالتسلطية والقوة المستوردة. 
2- في ضوء هذه الخلفية التاريخية، تهادت تركيا أردوغان مع «حزب العدالة والتنمية» بخطى بطيئة في مسار «الإسلام المعتدل» الذي باركه الغرب في مفاوضات معقدة. وراحت تركيا وفقاً لمعايير اتفاقية كوبنهاجن تحدق بنفسها منذ ال2002 في مرآة الدول المعاصرة كنموذج مدلع من الغرب تكيد فيه رقعة المسلمين، وتتحمس لردم الهوة بين الشرق والغرب بعد مصيبة البرجين في 11 أيلول 2001. لقد أعيى أردوغان دولته المعتدلة، إلى درجة إبعاد الجيش عن السياسة، واستقلال القضاء، وفرض حقوق الإنسان والتعبير، وحماية المرأة، وتخفيض عقوبات الاغتصاب والاعتداء الجنسي، وجرائم الشرف، والاعتراف بالهويات المناطقية والإثنية ( الأكراد)، التي تندرج كلها في ما يشبه القول: كلما داويت جرحاً سال جرح. وهكذا وجدت تركيا نفسها في ما يسمى «الربيع العربي» المتنقل في قبضة أردوغان الوحيدة وفي قلب اليقظات الدينية والإرهاب الذي نسجته ووقعت أسيرة شباكه الحافل بالمصالح والأعباء الكبرى. 
3- تظهر تركيا كأنها كلمة سر تحت وسادتها حيث حاجتها للغرب وحاجته لها. وبقي تفكيك كلمة السر لمن حولها ضرورة بعد الالتباسات مع العرب والمسلمين وغير المسلمين من حولها المسنودة إلى رفض تاريخي للعثمانية الجديدة التي تذكرهم بعصور القحط التي نشرها الأتراك فوق بلاد العرب ل514 سنة، قبل أن تنهار إمبراطوريتهم معتلة في فراشها فاتحة الطريق للتقسيم. 
قد يتصور البعض، أن «إسرائيل» هي المستفيد الأبرز من فوضى الإرهاب، خصوصاً في سوريا والعراق والمحيط، وهذا تصور منطقي وصحيح، لكن المستفيد الحقيقي الأكثر دهاءً من هذا الوضع هي تركيا. صحيح أنها ترتاح نسبياً في حلف شمالي الأطلسي، وصحيح أن قاعدة عسكرية أمريكية لوجستية ترضي غرورها، لكن الأصح أن مناكفة مصر والخليج والعرب والغرب وأوروبا تحديداً، يظهرها دولة لم تخلع تاريخها المرفوض، بل هي متحالفة استراتيجياً مع الإخوان المسلمين ومشاريعهم الإسلامية المتنوعة المرتبطة بالتكفيريين بمختلف أصنافهم، ونزعاتهم، وألوانهم، وصولاً إلى نسخهم المبطنة المتحولة، إذ لم يعد يغطي أنفها المحشور في شؤون العرب والمسلمين شيء يجعلها تتشارك مع إيران و«إسرائيل» لا في التلاعب بمستقبل الأكراد والدول المجاورة كما يظهر، بل بكراهية العرب واحتقارهم. 
ويبقى السؤال ملحاً: ماذا يعني الإسلام لتركيا؟