خليل علي حيدر

هذه ليست بغداد، مدينة السلام، كما وصفها المؤرخون بأسى بعد أن دمرها التتار، بل هي «الموصل»، أم الربيعين، التي جعل تنظيم «دولة خلافة داعش»، عالي المدينة سافلها!

تتصاعد رائحة الموت لتزكم الأنوف من الشطر الغربي من الموصل الذي تمتلئ أركانه بالركام والخراب والسيارات المفخخة والبيوت المهجورة، ولا تزال آلاف الجثث ملقاة في العراء في شوارع كثيرة لمتطرفين في التنظيم ممن تراجعوا إلى المباني المتلاصقة في الحي القديم، لكن السكان والمسؤولين المحليين يؤكدون أن جثث آلاف من المدنيين لم تُنتشل بعد من الأنقاض، الأمر الذي تنفيه الحكومة العراقية»، وتقول الحكومة «إنها جمعت جثث 2585 مدنياً، لكن هناك أكثر من 9000 مفقود في الحي القديم، ومن المفترض أنهم دفنوا تحت الركام».

العديد من الإعلاميين والمحللين العسكريين يتساءلون: أين جثث الدواعش؟ لماذا لم نر صورهم قتلى أو يستسلمون بأعداد كبيرة؟ الحكومة العراقية قد تنظم لهم جميعاً «رحلة تفقدية».. بين خرائب المدينة وجسورها المحطمة.

تقول مصادر لجريدة «الشرق الأوسط»، «إن المدينة القديمة مدينة أشباح، ولا ملمح فيها للحياة. وهناك 72 جسراً في عموم المحافظة محطمة، من بينها خمسة جسور على نهر دجلة تربط بين جانبي المدينة، ومن الخمسة يعمل واحد متضرر جداً، لكن أُعيد إصلاحه بشكل مؤقت يسمح بعبور الناس.. وأغلب عمليات الإعمار المدعومة من دولة مانحة توقفت بسبب حالات الفساد».

مؤتمر إعمار العراق الذي سيعقد في الكويت خلال هذا الأسبوع وسط زخم دولي وتمويل هائل، يجد نفسه في وضع لا يُحسد عليه، بين حجم خراب المدن العراقية، وبخاصة الموصل، وبين فساد الساسة.. ولكن لابد من عودة الحياة إلى دولة بأهمية العراق!

تحمل العراقيون من الموت والإرهاب خلال 15 عاماً ما لم يره شعب. وخاض الجيش العراقي معركة «في الموصل نادرة المثال، لإنزال الهزيمة بأعتى تنظيم إرهابي معاصر كانت له نفس سمعة جيش هولاكو التي «لا تقهر». ولكن البعض يقارن ظروف العراق القاسية المتوالية، وتوالد الحركات الإرهابية وتعثر الحظ فيها، بدمية «ماتريوشكا» الروسية، التي كلما رفعتها وجدت تحتها دمية مثلها، غير أنها في العراق قد تكون أكبر من سابقتها! بعض المحللين كالكاتب اللبناني «حازم الأمين» حذّر العراقيين المنتصرين في الموصل.. من الخلايا النائمة التي تقدرها الجهات الأمنية بألف خلية!

«داعش»، يحذر «الأمين» ليس مجرد تنظيم. «إنه امتداد لشيء في المدينة وفي محيطها. امتداد لهزيمة ولشعور بالهزيمة، وامتداد لبعث قديم، ولجيش منحل، ولعشائر لم يتم إخضاعها». وهكذا، فالمشهد الحالي ينذر بمولود جديد. فالتنظيم الحالي الذي ترأسه أبو بكر البغدادي، وُلد من خراب أقل مما تعيشه الموصل اليوم، والهزائم التي تتالت على المدينة لم تكن ساحقة على نحو ما هي ساحقة هزيمة اليوم».

وحذر الكاتب من إعطاء أي بعد طائفي للنصر العسكري. ذلك أن «البعث وضباطه قماشة التنظيم الأولى، وهؤلاء لم يمض زمنهم، وما النصر المذهبي سوى فرصة جديدة لهم».

وأضاف أن «مقاتلي داعش وأهلهم تبخروا بين السكان وفي مخيمات النازحين وفي الصحراء. وهم لم يفعلوا ذلك لأن زمن الهزيمة تطلب هذه الخطوة، بل لأن الحرب مستمرة. إنهم أنفسهم فدائيو صدام يوم تحولوا إلى «فصائل المقاومة» ثم إلى تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين»، ومن بعدها بايعوا البغدادي».

ولكن هل سيستأنف «داعش» عمله قريباً، كما يتوقع «الأمين»، أو ربما «الأرجح أنه استأنفه؟» هذه متروكة للأشهر والسنوات القادمة، ولكن معظم الأدلة تشير في مختلف مدن غربي العراق إلى عكسه!

هزيمة «داعش» في العراق- والموصل خاصة -هزيمة كبرى للتنظيم في كل مكان، وبخاصة أوروبا وروسيا وغيرهما، التي تقاطر آلاف الشباب المسلم المخدوع منهما، وهؤلاء اليوم جثث متعفنة بين خرائب الموصل.. بعد زوال خلافتهم!

ولا يعجب المرء فحسب من الميتة البشعة التي عرضوا أنفسهم وزوجاتهم لها، بل وحرص الدولة والتنظيم على ارتكاب كل ما ينفر الناس منهم داخل مناطق نفوذ «داعش» وخارجها. وفي الموصل خاصة، أشارت تقارير المراقبين في يوليو 2017، أن جثث المتطرفين «غالبيتها من الأجانب»، وهم الذين كانوا يحاربون في الأشهر الأخيرة، وبخاصة «من أصول روسية وشيشانية ومن جمهوريات سوفييتية سابقة، إضافة إلى العرب. ويأتي بعدهم مسلمون من آسيا، أفغان وباكستانيون وإيجور صينيون – أتراك الصين، ثم أوروبيون، فرنسيون وألمان وبلجيكيون وبريطانيون، ثم أميركيون». ويُبين عميد في قوى الرد السريع في الجيش العراقي أن غالبية حملة الجنسية الفرنسية من القتلى «من دول مثل الجزائر أو المغرب أو تونس». وقال الفارون من سكان الموصل «إن المقاتلين الأجانب أجبروهم بشكل وحشي على البقاء في المنازل التي تعرضت غالبيتها للقصف، أو كانوا يقتلون المدنيين الذين يحاولون الفرار».

أشارت التقارير كذلك إلى أن عدداً كبيراً من المتطرفين العراقيين هربوا بعد تسللهم بين المدنيين النازحين عن المدينة القديمة. ويؤكد الجيش العراقي توقيف الكثير منهم وربما تمكن المئات من الفرار. ولا يستطيع الأجانب الفرار والاندساس بنفس السهولة بسبب مشاكل اللغة واللهجة. وربما لهذا «لايستسلمون أبداً»، ولا خيار أمامهم سوى القتال حتى الموت. ولهذا كان المسؤولون العراقيون يتوقعون «أن الموصل القديمة ستكون مقبرتهم».