محمد آل الشيخ

تراثنا الموروث يحتوي على مقدسات وثوابت لا يُمكن أن يمسها النقد إطلاقاً، كما أنه يحتوي على اجتهادات وآراء بشرية، تبقى دائماً ظنيات، لا ترقى إلى مستوى اليقينيات أو القطعيات.

وأنا ممن يعتقدون أن مشكلتنا في قراءة التراث تكمن في الخلط بين المقدسات اليقينية، وبين الظنيات الاجتهادية، التي كان سلفنا في العصور النيرة يفرقون بينهما بوضوح.

النقد، لتصحيح هذا المسار، يجب أن يتناول هذه الاجتهادات البشرية، وليس النصوص الربانية، أو تلك الثابتة سنداً ومتناً من السنة النبوية. هذه مُسلمة كان يتفق عليها المسلمون في القرون الأوائل، حتى لا تكاد تجد من يختلف عليها. غير أن المشكلة العويصة التي يواجهها دعاة التنوير والتجديد، هي الخلط بين ما هو موروث مقدس، لا يجوز نقده، وبين ما هو في أصله وتأسيسه اجتهاد أو أقوال بشرية، يمكن نقدها، وتسليط الأضواء على مناهجها واستدلالتها، والرد عليها متى ما اكتنفها خللاً منطقياً؛ فكما يقول الإمام مالك

(كلنا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى قبره -صلى الله عليه وسلم-.

ونحن كمسلمين نقبع اليوم في قاع الأمم المعاصرة علمياً وحضارياً، أمة متخلفة، كسولة، متكلسة، لا منتجة، نأكل ما لا نزرع، ونركب ما لا نصنع، ونتداوى بما يكتشفه الآخرون؛ عالة على أمم الأرض المتحضرة في سلوكياتنا العنيفة الدموية. والسؤال الذي نطرحه منذ القرن الماضي والقرن الذي قبله: لماذا نحن متخلفون والآخرون يتقدمون؟.. وحتى اللحظة لم نصل إلى إجابة عن هذا السؤال!

هناك طبعاً أسباب كثيرة، ومتعددة ومتشابكة، مختلفة المرجعيات، لكن أهمها على الإطلاق في تقديري أننا نتعامل مع تراث موروث، منذ القرن الرابع، حيث توقف الاجتهاد، ونخشى أن نُحدِّثه، لأننا نخاف أن نُعمل فيه (آلية) العقل والمنطق، ولم نتناوله بالنقد والبحث والتمحيص، فكان، وما زال، يُشكل بالنسبة لنا عائقاً يقف بيننا وبين (الحداثة) بمعناها الشامل؛ وغني عن القول إن الحداثة والتحديث والتنمية، هي التي يُمكن لنا بها أن نتخلص من التخلف، واللحاق بالأمم التي سبقتنا حضارياً. إذا اتفقنا على ذلك، فإن نقد اجتهادات أسلافنا هي في رأيي الخطوة الأهم الأولى التي يجب أن نبدأ بها مسيرة التنمية الشاملة في كل المجالات، إلا أن هناك كثيرين، يقفون ضد الحداثة بكل قوة وإصرار وبعضهم بشراسة، لأنهم يجدون أن الحداثة ستقطع أرزاقهم، وتحرمهم من منهل كنز ثمين يعبون منه، يتمثل في هذا التراث الموروث، ومجرد المساس به، ونقده, من شأنه أن يحرمهم من التمتع بمكانتهم كحراس لهذا الكنز المدفون في صفحات الماضي، لذلك نجدهم يقفون بقوة وبكل شراسة، ضد من يتعرض لهذا التراث بالنقد، رغم أن مشكلتنا مع التراث ليست حول المقدسات التي لا تمس، وإنما في أقوال، وتفاسير، وقراءات، واجتهادات، وتطبيقات، وفهم هذا التراث الموروث.

أعرف يقيناً أن عجلة الحداثة ستسير مهما حاول الانتهازيون وأصحاب المصالح تعطيلها؛ ربما أنهم نجحوا في إعاقتها زمن الصحوة القميئة، واستطاعوا أن يدسوا العُصي في دواليبها، لكنها عادت الآن، واقتحمت حصونهم ومقولاتهم التي يزعمون أنها ثوابت، غير عابئة بأولئك الذين يصرخون وهي تدوسهم بعجلاتها، فكما يقولون: قد تخدع الناس بعضاً من الوقت ولكن لا تستطيع أن تخدعهم دائماً).

الأمر الآخر، والمهم، أن من يدعو إلى تهميش العقلانية، ويتعالى على تجارب التاريخ، ويُصر على المغالطة، والمكابرة، قد يُصدقه البعض برهة من الزمن، ولكن -وكما يقول التاريخ- لا بد من أن يأتي من يقول له لا، لتسقط كل مقولاته وتتلاشى ثم تندثر، رغم أن نقدها كان يوماً ما ضرباً من ضروب المقدسات التي لا تُمس.