علي نون 

ماكر وناكر ومكابر وقريب ذهنياً من الجُهَّال، وسياسياً من المراهقين، مَن يطنّش عن «ظاهرة» رئيس الحكومة سعد الحريري. أو مَن يمرّ عليها وكأنها حالة عابرة، أو مَن يُبخّس معانيها. أو مَن يلوي رأسه إلى الخلف (مع غمزة العين المألوفة!) إزاء فرادتها. أو مَن يشيح بوجهه إلى الجهة الأخرى بحثاً عن خلاص من هذا الضنى! أو مَن يذهب في التزوير والتحوير إلى حدودٍ أوسع من تلك التي اعتمدها سابقاً (ولا يزال) إزاء «ملف» التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري..

ظاهرة «الشيخ سعد»، وبموضوعية (إذا أمكن!) غير مسبوقة لبنانياً.. وبمعنى أدقّ: غير مسبوقة لا في زمن الوصاية الآفل والمدحور، ولا بعده.. هناك حالة واحدة كان يمكن أن تُماثلها، هي حالة رفيق الحريري نفسه: لو قُدِّر له، أو سُمِحَ له، من قِبَل الوصاية وضبّاطها وتركيبتها وحساباتها وقياساتها، أن يذهب جنوباً أو شمالاً أو بقاعاً أو جبلاً (إقليم الخروب) لكانت الصورة آنذاك مُشابهة إن لم تكن «متطوّرة» أكثر من الصورة الراهنة.

كان ممنوعاً عليه، حتى الاستطراد في بيروت نفسها! وأتذكّر مرّة، في احدى المناسبات، وكانت عيد الفطر، أن استقبل في قريطم مفتي الجمهورية وعدداً من شيوخ دار الفتوى وبعض الوفود التي جاءت لتهنئته بالعيد، فسألته بعد انفضاض الجمع، لماذا هذا «الاختصار» لجهة وقت الاستقبال و«قلّة» الوفود المهنّئة، ولماذا أصلاً لم يتقبّل مع المفتي في دار الفتوى التهاني مثلما يحصل عادة في بكركي في الأعياد المسيحية؟ فأجابني بأن «الجماعة»، وكان يقصد أهل «الوصاية المشتركة» من كبيرهم إلى صغيرهم، يتّهمونه أصلاً بالعمل على إحياء «حالة سنّية»، ولم يتورّع رستم غزالة مرّة عن إبلاغه عدم «رضاه» عن «تحرّكاته» التي يمكن أن تفسَّر ضمن ذلك القياس!.. وعليه «ما في داعي لنعمل مشكلة»!

لكن «المشكلة» وقعت. وصار اسم الحريري رديفاً مُلازماً لصحوة سنّية اعتدالية وطنية صافية وبعيدة عن المألوف الإقليمي، من أيام جمال عبدالناصر إلى منظمة التحرير الفلسطينية.. بحيث أمكن تأطير تلك الصحوة في سياق لبناني غير مسبوق أيضاً، وهو (للمفارقة) ما «دعّم» موجبات «القرار» السوري – الإيراني بـ«تصفية» هذه الحالة، وضربها من خلال تغييب صانعها ومُحرِّكها ورمزها الأول، بالاغتيال غدراً!

«الشيخ سعد» في حراكه الراهن، يخوض في السياسة والانتخابات لكنه يثبت أمرين كبيرين: الأول هو الثأر، (نعم الثأر!) لوالده الرمز. والثاني تأكيد دوام «المشروع الحريري» باعتباره رافعة لنهج اعتدالي وطني استقلالي وسيادي، بعيداً عن هيجان اللحظة الفتنوية على المستوى الإسلامي، وعلى الضدّ من الاستلحاق الإيراني الذي يمثّله «حزب الله» و«مشروعه» على المستوى الإقليمي، عدا عن التصدّي لملحقات ذلك المشروع المتمثّلة كيداً ومَرَضاً بترشيح رموز من الوصاية الأسدية لمحاولة «الدخول» إلى البرلمان اللبناني في وقت هي نفسها، هذه الوصاية، آيلة إلى «الخروج» من سوريا!

.. ويصحّ الظنّ والتخمين بأن «الشيخ سعد» بأدائه التلقائي والمباشر والعفوي والمقصود، أحيا في أسابيع معدودة، ما جهَدَ أخصامه (وأعداؤه) ومناوئوه الإيرانيون والأسديون، من أجل كسره ودحره على مدى السنوات الماضيات.. وتمكّن في عجالة انتخابية، إذا صحّ التعبير، من إعادة تثبيت ميزان «الأقوياء»، وشدّ العصب الذي تراخى وإعادة دمجه في سياقه: الوطني لبنانياً، والإسلامي العام طائفياً وليس مذهبياً وفتنوياً، والاعتدالي العربي قومياً وإقليمياً.. والفرادة التي تميّزه عن غيره هو عدم استخدامه خطاباً تحريضياً بعناوين انقسامية دينياً وسياسياً، أو بالأحرى شعوره العميق بعدم حاجته إلى ذلك الخطاب النافر والخطير، لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى التعبوي والاستنفاري، تبعاً لحضوره الشخصي الآسر. ولأدائه القريب من الناس. وللعاطفة الاستثنائية التي يلقاها أينما حلّ. ثم لاطمئنانه التام بأنه الوريث المؤتمَن على نهج بريء من المسؤولية عن سفك نقطة دم واحدة! و«المتّهم» في المقابل، بأنه علّم وعمّر وساعَدَ، و«خَسِرَ» من أجل الناس ولم يراكم الثروات على حساب الناس أو على حساب المال العام!

هذه «الظاهرة» هي من صُنْع صاحبها في أدائه الراهن.. هذا ليس مجرد وريث لإرث كبير فقط، بل رجل يستطيع لمّ وشحذ الهمم وشدّ الركاب بحضوره المميّز وبخطابه المدني السلمي السياسي الأهلي والتنموي، وليس بقرع طبول العداوة والنزال والمعارك والحروب والفتن وادّعاء البطولات الإلهية.. وأي ظاهرة، «الشيخ سعد»؟!