وحيد عبدالمجيد
الديموقراطية تتراجع، والسلطوية تتقدم، في العالم. انطباع يزداد انتشاره، ويُطرح في صورة حكم مطلق. يُذكّرنا سيل الكتابات والأحاديث عن تراجع الديموقراطية وهزيمتها، في اعتقاد البعض، بموجة مماثلة في حجمها، ولكنها معاكسة في اتجاهها، حملت بشرى تقدم الديموقراطية، وانتصارها النهائي، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ومعسكره في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي.
لم يستوعب من يجزمون اليوم بتراجع الديموقراطية، وموتها، الدرس المتضمن في القطع بتقدمها وانتصارها، فيندفعون إلى إصدار أحكام جازمة، ومن دون دراسة متأنية لما يحدث في العالم، أو استيعاب دروس تفيد أن التــاريخ لا يسير في خط واحد صاعد، بل في مسار متعرج يشهد خطوات إلى الأمام وأخرى إلى الوراء، الأمر الذي يجعل تراجع الديموقراطية، هنا وهناك، أمراً طبيعياً، مثله في ذلك مثل تقدمها.
وفي ظل الاندفاع إلى الجزم بهزيمة الديموقراطية، يزداد الميل إلى تعميم حالات انتكاس ديموقراطي لا نُقلل من أهميتها في الشرق الأوســط، وفي شرق أوروبا ووسطها، كما في بعض معاقل الديموقراطية في الغرب. ولكن حين تتمكن منا هذه الطريقة في النظر إلى الأمور، نرى جزءاً فقط من الصورة، ونغفل بالتالي تقدماً يُحقّقه النضال الديموقراطي في بعض البلدان، في مقابل التراجع الذي يحدث في غيرها.
ولم يكن نجاح المعارضة الأرمينية أخيراً في تحقيق التغيير الذي سعت إليه، عبر احتجاجات شعبية كبيرة استمرت لأسابيع، إلا دليلاً جديداً على أن الديموقراطية تتقدم، مثلما تتراجع، وإن بدرجات متفاوتة. وتسجل تجربة أرمينيا نمطاً جديداً للتفاعلات التي يمكن أن تُحدثها الضغوط المترتبة على احتجاجات سلمية منظمة. فقد دفع حزب يملك غالبية نيابية ثمن اختزاله في شخص فرض قبضته المطلقة، وأصر على الاستمرار في رئاسة الحكومة، واضطر في النهاية إلى قبول استبدال زعيم معارض به بعد أن أظهرت الاحتجاجات أن غالبيته البرلمانية لا تعبر عن الواقع لأن الانتخابات التي جاءت بها لم تتوفر لها مقومات النزاهة والشفافية. وعندما كف سيرج سركيسيان عن إنكار الواقع، وأعلن في 23 الشهر الماضي: «لقد أخطأتُ وزعيم المعارضة كان على حق»، أصبح لدينا نمط جديد في عملية التحول الديموقراطي، التي يوجد انطباع واسع بأنها توقفت.
كما مثل في الأشهر الماضية ثلاثة رؤساء سابقين أمام القضاء في ثلاث قارات. صدر حكمان بحبس اثنين منهما في كوريا الجنوبية (باك جون راهاي) والبرازيل (لولا داسيلفا)، فيما تتواصل محاكمة جاكوب زوما في جنوب أفريقيا.
وفي حالتي كوريا الجنوبية والبرازيل نموذج لأحد أفضل أنماط التفاعل الديموقراطي بين سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء، إذ عزل البرلمان الرئيسين السابقين بعد اتهامهما بالفساد، وأحال كلاً منهما إلى محاكمة لا يستطيع إلا أنصاره التشكيك في عدالتها. كما نجد في حالة جنوب أفريقيا نموذجاً للتصحيح الذاتي، وإن جاء متأخراً، في داخل حزب حاكم (المؤتمر الوطني الأفريقي) أقال الرئيس بعد اتهامه بدوره بالفساد، وأُحيل على القضاء.
وفي عهدة القضاء أيضاً الآن الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي في فرنسا التي تُدرج ضمن الدول التي تتراجع فيها الديموقراطية بسبب نزعة بونابرتية لدى رئيسها الحالي إيمانويل ماكرون. ولم تحل هذه النزعة دون فتح القضاء بعد أربعة أشهر فقط على انتخابه تحقيقاً حول زيارة قام بها إلى لاس فيغاس في مطلع 2017 حين كان وزيراً للاقتصاد، فضلاً عن تحقيقات فرضت تخلي أربعة وزراء في حكومته عن مناصبهم.
ويعني هذا أن هناك سقفاً لأي تراجع يحدث في معاقل الديموقراطية التي تواجه خطر صعود قوى قومية متطرفة، وأخرى شعبوية، في ظل جمود المؤسسات السياسية وتناقص الثقة بها. وهذا يفسر ضعف الآثار السلبية لتولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة على نظامها الديموقراطي، بحيث يجوز القول إنها لم تتجاوز حتى الآن فوزه في الانتخابات من حيث دلالته الأكيدة على تراجع في القيم الديموقراطية.
وفي المقابل، أدى هذا الفوز إلى استعادة القوى الديموقراطية حيويتها في إطار الحملة التي تخوضها ضد ترامب، وتخلق حاجزاً يمنعه من التأثير على التقاليد الديموقراطية.
ولكن إذا كانت الديموقراطية تتقدم هنا، وتتراجع هناك، وتوجد حدود للتراجع في معاقلها التاريخية التي يُستند إلى ما يحدث في بعضها للدلالة على حدة أزمتها، فكيف نفهم انتشار الحديث عن هذا التراجع على نطاق واسع، وتحوله إلى موجة جارفة؟
ربما نجد تفسيراً في التباسات عدة نكتفي هنا باثنين منها. أولهما التباس ينتج عن حال تشاؤم مصدرها تراجع ملموس في النزعة الإنسانية، ومن ثم افتقاد اليقين الذي بزغ، منذ عصر الأنوار، بقدرة الإنسان على صنع التقدم. يحدث الآن تراجع ملموس في النموذج الذي قام على محورية الإنسان، وعقله، وقدرته على أن يحقق ما منعته الخرافات والأساطير و «التابوات»، المصحوبة بقهر وظلم لانهائيين، من إنجازه، على مر تاريخه. التراجع الملحوظ بوضوح الآن يحدث في النموذج الثقافي الذي بدأ بالتبلور في عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، وأنتج نزعة إنسانية أخذت في الانتشار، ومثلث امتداداً للمعاني المتضمنة في فكرة مركزية الإنسان في الكون.
وهذا تراجع قيمي وأخلاقي وثقافي تقل في ظله قيمة الإنسان وحقوقه الأساسية، بدرجات متفاوتة وأشكال متعددة، بما فيها حقه في الحياة. يقف المجتمع الدولي متفرجاً في الأغلب الأعم على مجازر مهولة، وجرائم ضد الإنسانية، ينطوي بعضها على تغيير ديموغرافي، وتهجير جماعي إذ يُعد المُهجَّرون في بعض حالاته- مثل سورية- بالملايين، كما يستهين أثرياء العالم بعذابات لاجئين بائسين لا يحتاجون سوى إلى ما يبقيهم على قيد الحياة.
أما الالتباس الثاني فيعود إلى عدم ملاحظة أن هذا التراجع يصيب ثقافة الديموقراطية وقيمها ذات الأصول الليبرالية، أكثر مما يؤثر في النظام الديموقراطي وقواعده وإجراءاته وآلياته التي لم تستطع قوى صاعدة تغييرها في دول يُستند إلى ما يحدث فيها لترويج الانطباع الشائع عن تراجع شامل للديموقراطية في أنحاء العالم.
وإذا صح أن التراجع ليس شاملاً، وأن تعميمه يغفل حالات يحدث فيها تقدم، وأن معظم المستفيدين من هذا التراجع في بعض البلدان غير قادرين على إلغاء قواعد النظام الديموقراطي، ولا يستطيعون إلا التلاعب بها، فهذا يعني أن على المنغمسين في ترويج انطباعاتهم عن هزيمة الديموقراطية مراجعة هذه الانطباعات، والتفكير في الالتباسات التي تؤدي إليها.
التعليقات