حسين الرواشدة

ارتبط مفهوم الكلام في موروثنا الثقافي بمصدره، فهو ثابت وقطعي لا مجال للشك فيه او تأويله اذا كان متعلقا بوحي او مقام صحيح من مقامات النبوة، وهو ظني وقابل للتفسير والتأويل العقلي اذا كان مصدره خلاف ذلك.
في موروثنا الاجتماعي - ايضا - ارتبط الكلام بمصدره، وتنوعت طبقاته، وابتدع له الناس صنوفا واوصافا مختلفة، فثمة كلام «رجال» تربّع في الدرجة الاولى من الوثوق والمصداقية، واخذ على محمل الجد وتماهى مع الفعل، وبموجبه اصبحت الكلمة بمثابة «عقد» ملزم وطلقة لا يمكن ان ترد، ويمينا حازما لا يجوز ان يحنث فيه.
وثمة كلام «اولاد» لا يعوّل عليه، ولا يؤخذ به، ولا يلزم قائله بشيء، وثمة كلام «نسوان» يختلف تبعا للطبقة الاجتماعية التي صدر منها، فمنه كلام «هوانم» وهي في اعلى الطبقات، وكلام «نواعم» وكلام «بنات» وكلام «حريم» وهكذا، وهو في دلالته مختزل في التسلية وتقضية الوقت، او في مناقشة شؤون خاصة بالمرأة ومن حولها، او في مظاهر «شكلانية» منزوعة من المضامين الجادة، واحيانا في قضايا لها علاقة بالسياسة والاعمال من جانب التظاهر او التباهي، وبالحب وشؤونه من جانب العصف العاطفي وغيره.
ثمة «كلام عجائز» ايضا، وهو يشبه ايمان العجائز الذي ورد في الاثر، ودلالته مفهومة في اطار التسليم والزهد في النقاش، او في اطار «اليقين» الذي تنتجه الحكمة والتجربة، او بمعنى العجز عن التفكير او بمعنى عدم المواربة، يؤخذ على محمل عدم الاكتراث واحيانا اخرى على محمل «الصدق» الفطري والعفوية الجارحة.
في موروثنا - ايضا - ثمة كلام عذب ولكنه كاذب، ومنه الشعر، وثمة كلام قاطع ومنه كلام جهينة التي قطعت قول كل خطيب، وثمة كلام فارغ واخر مائع وثالث من نوع السفسطة ورابع ساحر يتعاطى به العشاق والمحبون وهناك كلام للعيون.. للجسد.. الخ.
في السياسة اتسعت دائرة «التنميط» الكلامي ولم يختزل كلام السياسي في كلمة او عبارة واحدة ذات دلالة واضحة، فهنالك كلام دبلوماسي، وكلام عابر توصف به بعض التصريحات السياسية، وكلام للاستهلاك المحلي وآخر «للتصدير» الخارجي، والكلام في السياسة «فن» يدور في فلك «الممكن» ويراوح مكانه بحيث يقول كل شيء ولا يقول شيء، وقد ينأى صاحبه عنه فينسبه الى مصدر مجهول او يتراجع عنه، وقد تعبّر «زلة» الكلام عند السياسي عن الف خطاب، وقد تكشف «المسكوت» عنه لحقبة سياسية كاملة.
في امثالنا الشعبية تتكرر الدعوة الى «التعقل» في الكلام والاقتصاد فيه ما امكن، خذ مثلا: «اياك ان يضرب لسانك عنقك»، «خير الكلام ما قل ودل»، «رب سكوت ابلغ من كلام»، «لسانك حصانك»، «جرح اللسان كجرح اليد»، وغيرها، مما يضع «الكلام» في دائرة «الاستثمار» القيمي والانتاج لا مجرد المغامرة او الاستهلاك فقط.
في بلادنا العربية، تختلط طبقات الكلام ومدلولاته حين تمارسه الحكومات او المعارضات وتتماهى قواميسه لدرجة اندماج النقائض وبالكاد يمكن ان تصنفه في اي نمط من الانماط التي اشرنا اليها سلفا، فهو كلام مجرد كلام، ومصدره معروف في الظاهر لكنه مجهول في المضمون، اما مصداقيته فحدّث عنها ولا حرج.
حين سأل المأمون الخليفة العباسي الامام احمد بن حنبل عما اذا كان القرآن الكريم مخلوقا ام قديما، اختار ابن حنبل ان يقول: القرآن كلام الله تعالى.. ولم يزد على ذلك، فكانت «المحنة»: محنة الصراع بين الفقيه والسياسي.. وبين السلطة ومعارضيها.
فهل كان مجرد نسبة «الكلام» الى الله تعالى مدعاة لكل ما حدث؟ ام ان «السياسة» لها منطقها الخاص في التعامل مع «الكلام» اي كلام؟ ثم ماذا عن محنة «الاسلام» في واقعنا اليوم؟.