& خليل علي حيدر&

&أعاد مفتي فلسطين أمين الحسيني من بغداد الاتصال بدول المحور وألمانيا النازية، فأوفد سكرتيره «عثمان حداد» مرة أخرى إلى برلين في يناير 1941 حاملًا رسالة إلى «الفوهور» الألماني نفسه أدوليف هتلر. رسالة تذكر الألمان بمطالب العرب القومية، وتؤكد عداءهم لبريطانيا وتعاطفهم مع دور المحور ضد العدو المشترك الإنجليز واليهود.

تضمن الرد الألماني وعودًا غامضة بالاعتراف باستقلال البلاد العربية، وبمساندة العرب عسكريًا إذا اضطروا إلى الحرب ضد الإنجليز، وجاء ذلك في رد وزارة الخارجية الألمانية على رسالة «المفتي»: «إن كلاً من الأمتين الألمانية والعربية متفقتان على الكفاح ضد عدوهما المشترك أي الإنجليز واليهود، إن ألمانيا مستعدة للعمل المشترك معكم، ولمساعدتكم مساعدة عسكرية فعّالة على قدر الاستطاعة إذا اضطررتم إلى الحرب ضد الإنجليز لتحقيق غاية شعبكم، وذلك بناءً على صداقة ألمانيا وإنجازًا للرغبة التي أبديتموها بواسطة سكرتيركم الخاص. إن ألمانيا مستعدة أيضًا لتسليم المواد الحربية فورًا لتقوية استعداد الأمة العربية للحرب المحتملة ضد الإنجليز متى أمكن وجود طريق لنقل هذه المواد الحربية».

(العلاقات الألمانية - الفلسطينية، د. علي محافظة، ص246)

ووافق وزير الخارجية الألماني كذلك على دفع مائة ألف مارك ألماني لمرة واحدة للحاج أمين الحسيني، ولم يوافق على دفع مبلغ عشرة آلاف جنيه إسترليني شهريًا كما طالب المفتي وعثمان حداد.

وبدأت علاقات ألمانيا النازية مع العالم العربي بالاتساع بعد ذلك، وتم تعزيز الدعاية الألمانية، وازدادت فترة الإرسال في إذاعة برلين العربية، كما تقرر توسيع نشاط الجاسوسية ومكافحة التجسس في كل من فلسطين وشرق الأردن ومصر.

كان هجوم دول المحور وبخاصة إيطاليا على مصر قد فشل عام 1964 ومُنيت القوات الإيطالية بقيادة «غرازياني» Graziani بهزيمة ماحقة، واستسلم 19 جنرالاً ومائة ألف جندي إيطالي، وأصبحت «برقة» بيد القوات

البريطانية، إذ أذهلت هذه الهزيمة هتلر، وتزعزعت ثقته بالإيطاليين الذين طلبوا النجدة من ألمانيا وزاد اهتمام الألمان بمنطقة شرقي البحر المتوسط التي كانت قد تركت لإيطاليا، واقتضت السياسة الألمانية الجديدة إعادة النظر في سياستها نحو العرب واتخاذ خطوات إيجابية في هذا المجال. ولكن في حين كانت الأمور تتطور لصالح «الحسيني» مع الألمان بعض الشيء كانت ثمة كارثة سياسية عسكرية بانتظاره في العراق الذي دخل في ثاني انقلاب عسكري بعد الانقلاب الأول الذي قاده رئيس أركان الجيش العراقي بكر صدقي عام 1936 في عهد الملك غازي، إذ تبنى صدقي كذلك توجهًا قوميًا عربيًا معاديًا لفرنسا وبريطانيا وقمع حركات الآشوريين بقسوة لا مثيل لها، وبخاصة في بلدة «سميلي» قبل الانقلاب بأعوام.

تصفها المراجع بأنها «بلدة آشورية في العراق قرب دهوك اشتهرت بمذبحة قام بها الجيش العراقي بقيادة بكر صدقي عام 1933 في حق سكانها. حدثت المذبحة في ظروف من التعصب العرقي والديني والأيديولوجي القومي في العراق بين قومية عربية تتهم بالعمالة للاستعمار كل ما ليس منها، وقومية كردية مشوبة بالذهنية العشائرية. كان الآشوريون يسعون الى إنشاء كيان قومي لهم في ولاية الموصل حسب وعد الحلفاء لهم، ولكن مصالح الدول الكبرى تعارضت مع مصالحهم فكان مصيرهم القتل والتشريد».

(معجم الشرق الأوسط، سعد سعدي، 1998، ص225).

وقع الانقلاب الجديد في أبريل 1941 عندما عهد الحيش إلى رشيد عالي الكيلاني، أحد غلاة القوميين من مناصري دول المحور وألمانيا النازية، بتأليف حكومة الدفاع الوطني، وقررت الحكومة البريطانية برئاسة ونستون تشرشل القضاء على الحركة الجديدة بأسرع وقت، وأنزلت قواتها في ميناء البصرة.

كان المفتي حريصًا على تجنب الصدام مع القوات البريطانية، وأخذ يسعى إلى كسب بعض الشخصيات السياسية في مصر الى جانب دول المحور، كما تلقى معونات مالية من ألمانيا وإيطاليا لهذا الغرض، وللإعداد للثورة في فلسطين وشرقي الأردن.

ومع تطور أحداث العراق وتحولها الى صدام بين القوات العربية والقوات البريطانية المرابطة في «قاعدة الحبانية»، وفي ميناء البصرة، رأى الحاج أمين أن الفرصة مناسبة لإشعال نار الثورة في فلسطين، فطلب من الوزير المفوض الألماني في بغداد، والذي عاد إليها سرًا بعد الانقلاب «إرسال خمسين رشاشًا خفيفًا ومائة مسدس رشاش جديد مع ذخيرتها إلى دمشق لهذا الغرض. وفي أثناء الحرب العراقية - البريطانية، تشكلت قوة البادية بقيادة فوزي القاوقجي من المناضلين الفلسطينيين والسوريين في العراق لمساندة القوات العراقية وتولى أمين الحسيني قيادة المقر الخلفي لهذه القوة». (د. محافظة، ص249).

عاش المفتي الحسيني بعد ذلك مجموعة أخرى من مغامراته الانقلابية، بعد فشل المحاولة في العراق، يقول د.محافظة: «قضت القوات البريطانية على حركة رشيد عالي يوم 30 (مايو) 1941، وهرب الحاج أمين الحسيني مع قادة الحركة من بغداد إلى طهران. أما المناضلون الفلسطينيون والبالغ عددهم حوالي سبعين رجلاً فقد عبروا الحدود العراقية - السورية، وفي 28 (يونيو) 1941 أبرق المفتي من طهران عن طريق السفارة الألمانية هناك يطلب من إسحاق درويش أحد الزعماء الفلسطينيين المقربين من المفتي أن يسافر إلى صوفيا (بلغاريا)، وأن يختار أفضل العناصر من الضباط المناضلين لتدريبهم في ألمانيا، وتمكن المفتي من الوصول إلى روما بصورة سرية عن طريق السفارة الإيطالية في طهران». (ص249).

وانتقل أمين الحسيني من روما إلى برلين بعد مباحثات مع موسوليني رئيس وزراء إيطاليا ومع وزير خارجيتها «شيانو» حول إصدار بيان يؤيد المطالب العربية.

ولم تكن لإيطاليا أي معارضة لاستقلال دول المشرق العربية، ولكنها لم تكن موافقة على استقلال ليبيا مثلاً! ولتعزيز المطالب التي تقدم بها المفتي إلى المسؤولين في وزارة الخارجية الألمانية أفضى الى مرافقه «غروبا» Grobba، وزير ألمانيا المفوض في بغداد (أي السفير الألماني) بمعلومات غير واقعية بل كاذبة عن «حزب الأمة العربية» الذي زعم أنه رئيسه، قال: «إن هذا الحزب امتداد لجمعية (العربية الفتاة) التي تأسست في باريس عام 1911، والتي نقلت نشاطها إلى سوريا عام 1915، والتي عُلق العديد من قادتها ومؤسسيها على أعواد المشانق التي نصبها لهم جمال باشا، وكان يرأسه في بادئ الأمر الملك فيصل الأول، وكان فيصل الأول يرى ضرورة بناء الحزب من جديد وطرد بعض الأشخاص مثل نوري السعيد». وأضاف المفتي «إن للحزب أعضاء في كافة الأقطار العربية، وتقوده لجنة إدارية واحدة تمثل هذه الأقطار، وكان الحزب ولجنته الإدارية وراء الكفاح العربي في فلسطين والعراق». وقال المفتي لغروبا الألماني إن رئاسة الحزب قد تولاها المفتي بعد موت الملك فيصل!

ولم يتردد المفتي في ذكر أسماء الكثير من الشخصيات العربية من دول وأقطار مختلفة، وقال إنهم أعضاء في اللجنة الإدارية، منهم رشيد عالي الكيلاني وناجي شوكت وعزة دروزة ومحمد علي علوية من مصر، وعدد من شيوخ عشائر الشيعة في العراق. ويضيف د. محافظة في إشارته إلى هذا التصرف من المفتي (ص251): «لقد كان قصد المفتي من الإدلاء بهذه المعلومات تعزيز موقفه لدى الألمان وإضفاء هالة من التقدير والاحترام على شخصه. فقد أنكر فيما بعد قيام حزب الأمة العربية، كما أنكر أن يكون قد أدلى بمعلومات عن هذا الحزب للمسؤولين الألمان».

المقالات