اعتاد الفرنسيون الترويج لعقيدة عصر التنوير باعتبارها الباعث الأوحد لحرية التعبير في التاريخ الإنساني وأنها تمثِّل العبارة المقدسة في موروثه، وكانت مقولة فولتير الشهيرة في نظرهم:

«سأدافع عن حقك في أن تقول رأيك حتى الموت» مصدر الإشعاع لتلك المرحلة التي يتفيأ العالم تحت ظلال تضحياتها حتى اليوم كما يعتقدون.

بعيدًا عن الجدل الحضاري حول درة تاج حرية التعبير في التطور الإنساني، فكل حضارة تعتقد أنها تملك من إرثها ما ترى به استحقاقها لهذا الشرف، ولأن الحضارة الغربية اليوم هي المتحدث باسم حقوق الإنسان في العالم المعاصر والمنظر لحدود حرية التعبير - كما يقدّمون أنفسهم -، فسأركز حديثي ونقاشي في سياق تطورها وأطروحاتها، مبتدئاً بالإقرار أن فرنسا كانت القلم الأكثر وضوحاً في رسم لوحة الحرية الأوروبية التاريخية، فالإعلان الذي يعد من وثائق الثورة الفرنسية الأساسية وهو إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 26 أغسطس 1789 كان أكثر شمولاً وعمقاً في التعاطي مع حقوق الإنسان من الإرث الإنجليزي والأمريكي في وثيقة ماجنا كارتا (1215- 1216) ووثيقة الاستقلال الأمريكي (1776)، لتجاوزه المصطلح الفضاض لحقوق الإنسان وتفرقته بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن داخل الدولة باعتبار أن الإطار القانوني المرتبط بالحقوق قابل للتقييد والمسؤولية استناداً إلى العلاقة التعاقدية بين الدولة والإنسان وفقاً لنظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو.

أخذت حرية التعبير كحق أساسي من حقوق الإنسان في الثورة الفرنسية مكانة مهمة وجاء في مقدمة وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن في الثورة الفرنسية أن ممثلي الشعب الفرنسي في الجمعية الوطنية قد تبيِّن لهم أن احتقار حقوق الإنسان من الأسباب الرئيسة للمصائب العامة في البلاد وأجمعوا على تبني هذه الحقوق الطبيعية الثابتة التي لا يجوز الانتقاص منها، هذه العقيدة الراسخة في الضمير الفرنسي هي التي دفعت الرؤساء الفرنسيين دائماً إلى التأكيد على حرية التعبير ودعمها تصريحاً وتلميحاً، لكن البجعة السوداء ولدت هذه الأيام حين كسر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كل هذا الإرث في الثاني من سبتمبر الماضي لينهر ويوبِّخ صحافياً فرنسياً هو جورج مالبورونوت الذي نشر في مجلة الفيجارو الفرنسية مقالاً له يكشف فيه عن لقاء الرئيس ماكرون مع محمد رعد رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الله في مجلس النواب اللبناني.

البعض رأى في هذا التصرف الماكروني مؤشراً مهماً يمس حرية التعبير ودور الصحافة في فرنسا خصوصاً والغرب عموماً، لكن اللافت في نظري أن ردة الفعل من المدافعين عن الحريات في العالم وفي أوروبا تحديداً لم تصل إلى الدرجة المتوقعة رغم أنه حدث في قلب عاصمة الثورة الفرنسية ومن وريثها السياسي اليوم الرئيس ماكرون، وفي نظري أن الحالة القومية التي تطورت بعض نماذجها في أوروبا اليوم إلى الفاشية هي ما جعل مثل هذه الظواهر أقل استثارة للرأي السياسي العام.

لكن بالطبع كان ثمة ردود فعل مناهضة تقرع الجرس وتحذّر من خطورة ما حدث استناداً إلى مرجعية الثقافة والوطن، والأعجب في نظري أن منظمة العفو الدولية (Amnesty) ومنظمة هيومن رايتس ووتش (Human Rights Wach) لم يصدر عنهما أي تعليق بإدانة واضحة تجاه ما حدث وهي التي تذرع الأرض طولاً وعرضاً للتصريح عن أي انتهاك كما يقول مسؤولوها دائماً، فهل أصبحت حرية التعبير والصحافة في نظر ماكرون وهاتين المنظمتين تحديداً ثوباً يفصَّل على مقاس مواقفهم وردات أفعالهم؟!

كان حديث ماكرون واضحاً حين قال مخاطباً الصحفي الفرنسي «إن ما قمت به هو عمل غير مسؤول، وكان عليك أن تدرك مدى حساسية هذا الموضوع، وتعي تاريخ لبنان. فهذا العمل لا يتسم بالمسؤولية نحو فرنسا. إنه أمر خطير من الناحية الأخلاقية، و هو عمل تافه، ويمثِّل خطورة.» وقد نقل الإعلام الفرنسي والعالمي أجمع هذا التوبيخ بشكل واضح لا لبس فيه ما حدا بالسياسي الفرنسي أوليفييه مارليكس عضو الجمعية الوطنية سابقاً أن يصف تصرف ماكرون في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» بأن هذا الأسلوب الغاضب وتقريع الصحفي الذي يعد أحد أفضل المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط أمر مستغرب! فهل تخيّل الرئيس أن محادثاته ولقاءاته ستبقى سرية! الوزيرة السابقة في الحكومة الفرنسية أيضًا مادين مورينو نددت بتصرّف ماكرون، وعلَّق آخرون أن ردة فعله تبدو خطوة باتجاه محاربة حرية الصحافة!

بعيدًا عن ردات الفعل الفرنسية والأوروبية والتي جاءت في سياقاتها المنطقية فقد جاء المضحك المبكي ضمن ردود الأفعال من تركيا؛ تلك الدولة التي وجدت في تصرف ماكرون متنفساً سياسياً لها في صراعها مع الفرنسيين، فنشر رئيس مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية التركية تغريدة يقول فيها: (إن فرنسا أصبحت مكاناً خطراً للصحفيين وإن ماكرون لا يريد أحداً أن ينتقده وكان ذلك واضحاً أثناء الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في الفترة الأخيرة)، والمثير للسخرية أن المسؤول التركي يعبر عن الانفصال مع الواقع بهذا الانتقاد وهو الذي يعيش في بلد زج فيه رئيسه أردوغان بآلاف الصحفيين في السجون ونالوا من التعذيب والتصفية الجسدية ما نالوا بسبب مخالفتهم لسياساته!

من خلال البحث والتقصي في تحولات المجتمعات الغربية ليس من قبيل المبالغة القول إن ثمة جدلاً عميقاً في صميم الوعي الغربي بهذه التحولات المتراكمة يصدر أحياناً في شكل دراسات وتعليقات وأطروحات صحفية، بل ومواقف سياسية واجتماعية عديدة، وقد يكون التحدي الأكبر في هذه المرحلة هو المضمار الأخلاقي المرتبط بالقيم الغربية ذاتها ومنها بالطبع موضوع هذا المقال وهو حرية التعبير كأحد مضامين حقوق الإنسان الأساسية، يقول إلكساندر ميكلوجن المفكر التاريخي المهموم بتطوير حدود التعبير في السياق الديمقراطي: حين يدعو المدافعون عن حرية التعبير بتبنيها فإنهم لا يقصدون أن يتحدث كل إنسان بهذا الحق في أي وقت وأي مكان وبالطريقة التي يريدها، فحرية التعبير التي نريد ينبغي أن تكون في الأوقات والأماكن المناسبة ولا بد من قيود تضبطها. كما لا تزال أدبيات النقاش حول هذا الحق تستذكر الفكرة الشهيرة للقاضي أوليفر وندل الابن حين أدلى بها في الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا في قضية (سكينك ضد الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1919م) وهي أن حرية التعبير لا يشملها الصياح بكلمة حريق في مسرح مزدحم باعتبار أن كلمة كهذه في مكان كهذا قد تنتج تدافعاً وقتلى. وقد يعتقد ماكرون في توبيخه للصحفي الفرنسي وفي هذه المرحلة أنه لا ينتهك حرية التعبير باعتبار بلاده تخوض حرباً في مواجهة بسط النفوذ وتقليصه دولياً، وكما هو معلوم أن الدولة حين تكون في حالة حرب فإن لها الحق بتقليص حرية التعبير ولا تعتبر أي محكمة هذا الحق في هذه الحالة يستحق الحماية الدستورية، لكن السؤال: هل فرنسا اليوم كذلك؟ وهل أعلن الرئيس ماكرون هذه الحالة ليمارس هذا الحق؟

في نظري أن الديمقراطية الغربية وفي سياق أشمل يتجاوز الطرح حول تصرف الرئيس الفرنسي تتجاهل حقيقة أن دولها باتت ذات تعددية ثقافية تستلزم الوعي بالحرية عموماً في سياق يختلف عن ثقافتها التأسيسية القومية وهو الإدراك العميق المفقود بحدود حرية التعبير في تلك الدول الآن. وبعيداً عن مفارقة تأييد ماكرون لنشر صحيفة فرنسية رسوم مسيئة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بحجة احترام حرية الصحافة وتوبيخه للصحفي الفرنسي باعتبار ما فعله مسيئاً لمصلحة البلاد ولا يدخل ضمن هذه الحرية في نظره، فإن الماضي القريب يدلِّل على ما أراه صراعاً على صعيد الوعي بحرية التعبير في أوروبا، فقد رفض عدد من رؤساء التحرير في بريطانيا إعادة نشر اثني عشر رسماً كاريكتورياً نشرتها الصحيفة الدنماركية (جيلاندز بوستن) رغم موجة التضامن الأوروبية الواسعة التي صاحبتها، وهو ما يكشف من وجهة نظري صراع الوعي بحدود حرية التعبير في المجتمع الغربي وأعتقد أن إعادة نشرها هذه الأيام سواء في فرنسا أو غيرها ليس إلا نتيجة للصراع الفكري العميق في الضمير الغربي تجاه حدود حرية التعبير، والمقلق أن السياسات الغربية الحالية تجاه الأقليات التي تكبر وتتوسع في داخلها وتوسيع ميدان الصدام معها ينذر بنواة فاشية جديدة تنشأ داخل الأقليات نفسها لمواجهة الفاشية التي نضجت داخل العرق الأبيض في تلك الدول وهي نتيجة منطقية لما وصفه بعض الباحثين بالشذوذ الحضاري!

أخيرًا أتساءل: لماذا ينتقد الأوروبيون بعض القرارات التي تتخذها العديد من دول العالم بحجة حماية الأمن القومي والاستقرار في دولهم، وهم يمارسون ذات الشيء حين يتصل الأمر بدولهم ومصالحهم؟ ولماذا تلتزم منظمات حقوق الإنسان الصمت والتجاهل حيال هذا الواقع؟