لم يكن حبر البيان الذي أصدره وزيرا الخارجية ‏الأميركي والفرنسي أنتوني بلينكن وجان ايف ‏لودريان، بمناسبة مرور ستة أشهر على جريمة ‏انفجار مرفأ بيروت الكارثي، حيث طالبا بإعلان سريع ‏لنتائج التحقيقات "التي يجب أن تصدر عن نظام عدالة ‏يعمل بشفافية بعيداً عن أيّ تدخل سياسي"،قد جفّ بعد، ‏حتى وجد مساعدوهما أنفسهم، بعد ساعات قليلة، ‏يدبّجون بيانين منفصلين آخرين، بمناسبة اغتيال ‏المفكر اللبناني المعارض لقمان سليم، يتضمّنان ‏‏"الأفكار القضائية" ذاتها.‏

تُراكِم هذه البيانات على مكتبك، وتدخل الى الأرشيف ‏وتُدقق في البيانات التي كانت قد صدرت، بمناسبة ‏الإغتيالات التي حصدت ناشطي الحراك الشعبي في ‏العراق، فتجد أنّ أسماء الشهداء وهويتهم الوطنية، ‏تتغيّر فيما الأدبيات هي نفسها. ‏

لستَ بحاجة الى هذه البيانات لتعرف أن لا فرق بين ‏لقمان سليم اللبناني وهشام الهاشمي وريهام يعقوب ‏وتحسين أسامة العراقيين، ولكنّك، تحتاج إلى هذه ‏البيانات، لتُدرك أنّ القتلة، بالسهولة التي يهدرون فيها ‏دماء معارضيهم، "يبلّون" هذه البيانات و"يغلونها"على ‏نار هادئة ويقدّمونها في أقداح شاي فارسية، في جلسة ‏ضاحكة، لقضاة "نظام العدالة" الذين إنْ لم يتحرّكوا ‏لحمايتك، عند تهديدك، فهم لن يتحرّكوا لإنصافك، عند ‏تصفيتك.‏

من سبق أن اغتيلوا، ومن هم على "لائحة الإنتظار"، ‏يدركون عجز المجتمع الدولي أمام آلة الإجرام، وهم ‏لو كانوا يتوهّمون بقدرة هذا المجتمع على التصدّي ‏للجريمة، لما كانوا قد اضطروا للسيرفي هذه الدرب ‏المزروعة بالعبوات الناسفة وببنادق الإغتيال. ‏

لقد سلكوا هذا الطريق مزوّدين بشجاعة الحالم، لعلّهم ‏يورثون لمن يأتي بعدهم دولاً تستحق صفاتها، ‏ومؤمنين بأنّ العدالة التي لن تتوافر لهم في أوطانهم، ‏سوف تشرق عليهم، ولو من أقاصي الأرض.‏

وقد لا يكون "قانون الصدفة" هو الذي أملى تزامن ‏اغتيال لقمان سليم في لبنان، مع صدور أوّل حكم من ‏نوعه عن محكمة بلجيكية، ضد شخصية مخابراتية ‏إيرانية متدثّرة بالثوب الدبلوماسي، كانت تخطط لقتل ‏معارضين للنظام الإيراني، عند احتشاد آلاف منهم، ‏في اجتماع عقد في 30 حزيران (يونيو) 2018 في ‏مدينة "فيل بنت" القريبة من العاصمة الفرنسية.‏

أهمية الحكم القضائي البلجيكي الصادر ضد أسد الله ‏أسدي وشركائه لا تكمن في العقوبات التي أنزلهابهم، ‏إنّما في تفاصيله، ذلك أنّ إيران التي ترعى وتموّل ‏وتستتبع "فرق الموت" التي يشتبه بضلوعها في ‏اغتيال المعارضين لهيمنتها في لبنان والعراق ‏وغيرهما، جرى تصنيفها قضائياً، كأوّل دولة في ‏العالم، تُرسل العبوات الناسفة عبر الحقيبة ‏الدبلوماسية.‏

الحقيبة الدبلوماسية التي منحتها المواثيق الدولية ‏الحصانة الكاملة، حوّلها النظام الإيراني الى ناقلة ‏للعبوات الناسفة، بهدف اغتيال معارضيها الذين نجوا ‏من التصفية والإعتقالفي وطنهم، وحملوا قضيتهم ‏ليواصلوا النضال من أجلها، في دول ازدهرت، لأنّها ‏تؤمن بقدسية المعارضة وحيوية البدائل وأهمية تداول ‏السلطة.‏

حاول أسد الله أسدي أن "يُعقّل" السلطات البلجيكية، ‏قبل أن يمضي قضاؤها قدماً، في تحقيقاته. لقد أفهمها ‏أنّ الإجراءات التي تستهدفه سوف تُثير غضب ‏تنظيمات خطرة تابعة للنظام الإيراني، تصدّرها اسم ‏‏"حزب الله" اللبناني. كان يستدعي بروكسيل الى واحدة ‏من تلك الصفقات التي ازدهرت، في أوروبا، في ‏الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي. ‏

فضحت بلجيكا هذا الترهيب وتجاوزته، وتركت ‏قضاءها يقوم بواجباته. ‏

وفيما كانت العدالة البلجيكية تسقط الفرع الأوروبي ‏في "فرقة الموت" الإيرانية، جرى اغتيال لقمان سليم، ‏واختطف ناشطون من طينته في العراق، حيث لا ‏حاجة للحقائب الدبلوماسية، لأنّ مفاهيم أسمى، ‏كالمقاومة، يجري تحميلها العبوات والبنادق ‏والمسدسات، من دون أيّ حاجة الى كاتم صوت...‏

إنّ الحكم القضائي البلجيكي، في مكان ما، يتجاوز ‏حدوده الجغرافية، ليشمل جميع هؤلاء الذين يُشتبه بأنّ ‏أذرع النظام الإيراني تقف وراء اغتيالهم، في أيّ بقعة ‏في العالم.‏

سابقاً، كانت "الصفقات" المخابراتية مع الدول ‏الأوروبية، تطيح بحقوق من يغتالهم النظام الإيراني ‏وكل من هو على شاكلته، ممّا يقوّي فرق الموت ‏ويعزّزها ويوسّع انتشارها ويفرض شروطها. حالياً، ‏وبفضل هذا الحكم القضائي الذي شاركت في توفير ‏أدلته الثبوتية كلّ من ألمانيا وفرنسا، سقط نهج ‏الصفقات.‏

ثمّة بداية لكل تطوّر كبير. وهذه بداية انتهاء زمن ‏حرية إيران وأدواتها في استسهال تصفية المعارضين، ‏أينما كانوا. ‏

قد يحتاج توسيع رقعة مواجهة الإغتيال على الطريقة ‏البلجيكية، ليشمل دولاً مثل لبنان والعراق وسوريا، ‏الى زمن طويل، ولكن، بالنسبة لمن جرى اغتيالهم، لا ‏يعود للزمن أيّ معنى، تماماً كما يتقزّم حجم الخطر، ‏مهما عظم، في عيون من يناضل من أجل فكرة ‏إنسانية أو قضية وطنية.‏

حينها، لا تعود بديهيُة إحلال العدالة، في كارثة بحجم ‏انفجار مرفأ بيروت، وفي جريمة بحجم اغتيال لقمان ‏سليم، تحتاج الى بيانات وزارات الخارجية، بل الى ‏قاض يستحق لقبه ينطق بحكم مهيب، ضد مجرم لا ‏يتجرّأ على رفع سبابته مهدّداً بقطع الأيادي. ‏