غادر الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة مهجره الأميركي متوجهاً إلى بيروت وقد صارت "أرحب وأكبر مما عرفها قبل عشرين سنة" تبدّلت فيها الأحوال وتطورت الأوضاع تطوراً طبيعياً محكوماً بزمنٍ مذهل السرعة والتحولات. عاد من "بابل القرن العشرين" إلى "صنين" بحنين وشوق يماثل "شوق موسى بن عمران إلى أرض الميعاد" وقد ولد لبنان جديد ... شرع هذا الجديد يدلف القِدَم من قَبل وبعد "استقلاله" بـ"سوء استغلاله".

رجع ميخائيل نعيمة بحراً ورست السفينة في مرفأ بيروت، وجاد كتابه الأثير "سبعون" بتصوير المشهد: "نحن في ميناء بيروت. الميناء يستفيق شيئاً فشيئاً على نهار جديد حافل بالحركة التي ألفها في كل يوم: استقبال مسافرين وتوديع مسافرين. وتفريغ بضائع وشحن بضائع. من الأرصفة تطرق مسامعي قعقعة الدواليب، ووقع سنابك الخيل، وقصف سياط الحوذّية، ولغط السماسرة والعتالين: يا أحمد! يا مصطفى! يا أبو زكور! وزعقات منكرة ما سمعت مثلها بيروت التي أبحرتُ منها قبل عقدين من السنين. إنها زمارات السيارات".

كان ذلك في التاسع من أيار (مايو) 1932 وليس في حيّز المرفأ مخازن كبيرة تستوعب المواد الكيميائية المتفجرة، والمدينة لما يتسرب إليها بعد نفوذ الميليشيات المسلحة، وإن شاع الفكر المُوَلِد للأحقاد بين أتباع طائفيي الأديان - وتبعاً لذلك أحقاد مذاهب الدين الواحد - الذي "ينتاب بيروت بين الحين والحين من ضيق في النفس يعزوه الجاهلون إلى ضيق في صدر عيسى ضد محمد، أو في صدر محمد ضد عيسى. وعيسى ومحمد منه براء. فالذي أنطق الواحد أنطق الآخر، وهو الذي ما برح يُنطِق حتى الصخرة وذرة التراب بالخير والمحبة والجمال. ولكن لقوم يعقلون" حسب نعيمة الذي امتد به العمر حتى رأى "قوماً لا يعقلون"، من دون أن يخص بكتابٍ جيلاً يزحم الجيل الذي خاطبه "أربأ بك أن تحط محكومك لترفع حاكمك، وتعز حاكمك لتذل محكومك ..." فما دوّن ألمه مِمَن لا يعقلون مِن طائفيي ومذهبيي تجار الحرب الأهلية اللبنانية، وهو الذي خبر أهوال الحربين العالميتين بأنها "تشوه الروح قبل الجسد". فالنتيجة إذاً لن تختلف عما شهده لبنان من حرب صغيرة أثناء صباه "جعلت الناس يكفرون بكل قيمة ما خلا قيمة القرش" حسب قوله ... والقرش اليوم يكاد يكون منعدماً، قيمةً ووفرة، في لبنان!

تلك بيروت وذاك المرفأ زمن نعيمة الهارب من "جلبة صاخبة" خلّفها وراءه إلى حيث واجه "صدمة عنيفة يُدرِكُ ويُدَرَك بها كيف غُرست البذور والنويات الأولى التي حاولت قتل بيروت في ما مضى، إلى أن "آب العذاب" يوم "الرابع من آب (أغسطس) 2020" باشتعال جحيم "مرفأ بيروت" فينفجر من جرائه أحد شرايين قلب الشرق الأوسط. ويعيش بنو الإنسان "أعنف صدمة" أذهلت الألباب وشتتت العقول وروّعت الأنفس وشلت الألسن عدا نداء كل ذي دين: "يا الله..."، "يا عذراء...". بعدما طارت قلوب من ضلوعها، وقفزت عيون من وجوهها منكِرةً ما ترى، وأصمت الأسماع أجراس الإنذار المنكَرة.

لقد تفاعل العالم مع بطولات أمهات وسيدات يحمين أطفالهن وأسرهن من شظايا ولهيب جحيم وسعير لم يدخر معه المسعفون جهداً لإنقاذ الجرحى، في المستشفيات والمقاهي والأماكن كلها... فامتلأت ذاكرات الكاميرات والتلفونات بتوثيق لحظة "القيامة" يومها.

كما لم تجف حتى الآن دموع الأحبة من أمهات وآباء وزوجات وأزواج وأطفال على شهدائهم، بعدما أفاق من سباته كل منهم ومنهن لكي يخرج خالي البال والفكر من أنه سيُقتل أو يصاب بأذى مادي يفوق أذاه المعنوي في بلد فقد أمنه واستقراره وسلامه وتعايشه. وأن غيره سيتلاشى حلمه بتوفر فرصة عمل ضئيلة... وأن المصارف ستخلو مدخراتها وتتجمد أرصدتها... وأن المباني سينطفئ بهاؤها. وأن لغط التحليلات والتهم السياسية والاقتصادية والأمنية سيستمر. وأن المبادرات الفرنسية و"مُكَلَفي ومُكَلِفي" الحكومات اللبنانية لن يعالجوا المشكل ولن يقدموا الحل الناجع.

تبعات التفجير وقد فرّغت شحنات حقد دفين وعجز فاسد، تؤكد تشخيص نُعيمة "مسالك الآدميين" وما يكسوها من "مظاهر النزاع والقسوة، وقرصنة البورصة، وجشع المصانع والمتاجر والمصارف ومكايد السياسة، وأحابيل الاستعمار، وأحقاد المذاهب ونفاق السلطة ورياء الظلم وقد تجلبت بجبة العدالة، وخداع العهر وقد لبس المسوح...".

ما تغيرت المسالك الآدمية التي "غيرت بيروت" حتماً بعد التفجير كما "غيرتها الحرب. وغيّرها الانتداب" والاقتتال الأهلي من قبل. وإن ظلت بيروت "بعيدة جداً عما كان يرجوه - نعيمة وغير نعيمة - من النظافة والترتيب والهدوء والنظام" لكنها تبقى "ست الدنيا".

وستستمر "الحياة" طالما أشرق "النهار" بالأمل والعزم والتحدي، لكل تفجير موقف شرير يراد بلبنان وأهل لبنان. ويتبقى "العمل بعد الأمل" بتحقيق ما نرجوه من خير وسلام لأوطاننا جميعاً.