تشهد دول عربية مماحكات وصراعات واشتباكات داخل نسيجها المجتمعي، وأقصد هنا السلطة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني. معادلة معقدة لا في تركيبتها ولا في تفكيكها لأن النتيجة خسائر في خسائر في كل الأحوال. وانظر لما يجري في اليمن وما صنعه الحوثي مروراً بالعراق ولبنان وليبيا وتداعيات التدخل الخارجي، ناهيك عن المواجهة والتصعيد في تونس والسودان، فالمشاهد التي نراها يومياً كافية لندرك مدى انتشار هذا الخطر المريع. كنا نقول إن المنطقة بأسرها ترقد على برميل بارود يوشك أن ينفجر في أي لحظة. ولكن الانفجارات قد بدأت فعلاً مهددة السلم الأهلي في تلك الدول وغيرها. صحيح أن بعض تلك الدول التي عاشت أجواء ما سمي الربيع العربي لم تستطع تجاوز مرحلة ما بعد الثورة، إلا أن خصائص كل مجتمع بالتأكيد تلعب دوراً مفصلياً في مساره الديمقراطي.
هناك استثناءات مشرقة في العالم العربي ونماذج دول لافتة، كالسعودية والإمارات ومصر، حيث الأمل العربي يتجدد ويكشف صفحة بيضاء ملؤها الأمل والتفاؤل بغد أفضل بدليل التحولات التنموية والثقافية والاقتصادية المبهرة التي تعيشها تلك الدول، وبالذات السعودية التي أصبحت حديث العالم بما جرى ويجري فيها من تحول جذري وحقيقي استناداً إلى رؤية وخطط مرحلية في الجوانب كافة رغم المصاعب، ولكنها تسير في الطريق الصحيح والإنجازات والأفعال والقصص المؤثرة هي العنوان للحراك الذي يدور في بلد كان محط التندر والتهكم، ولكنه اليوم أصبح في المقدمة يشق طريقه بثقة وفخر وشموخ بعيداً عن المجاملات والأضواء والدعاية.
غير أن الحالة العربية الماثلة أمامنا في كثير من الدول تدفعنا للقول بصراحة إن ثمة خللاً ما جعلها تصبح بالفعل قلقاً غير مسبوق لأنها باتت تمس أمن واستقرار دول ومجتمعات عربية. مرض فتاك بات ينخر الجسد العربي من خلافات ونزاعات واشتباكات قاطعاً الصلات بين المجتمعات بعضها ببعض بكل مكوناتها العرقية والإثنية والمذهبية بحجج ودعاوى واهية.
تأمل حال هذا الإنسان العربي في تلك البلدان الذي لم يعد منسجماً مع ذاته، علاوة على شخصيته المضطربة والمشوشة في ظل تشكل مجتمعات لا يزال بعضها يعاني من اضطراب فكري وثقافي، لا سيما في وجود آيديولوجيا استخدمت كجسر للحصول على مكاسب، بدليل هاجس الاستيلاء على السلطة الذي كما لاحظنا مع حركات الإسلام السياسي، حيث يمثل المغنم والهدف والطموح لجماعات وأطراف وأفراد بصرف النظر عن مشروعية الوسيلة.
ومع ذلك نعترف بأن المشكلة لا تكمن في المواطن العربي، بل هو ضحية لظروفه التي تحكمه. هذه السلوكيات باتت واقعاً ملموساً، كون العلاقة بين الدولة والمجتمع في الكثير من دولنا العربية يشوبها الكثير من الريبة والاحتقان والحاجز الذي يتمخض عنه فقدان الثقة ونتوءات عدم الاستقرار.
إن الانجراف مع تيار الآيديولوجيا كما نعيش الآن وصراعات الطائفية والهوية والمذهبية من أبرز ظواهر التخلف التي تتسم بها بعض مجتمعاتنا العربية، وهي كارثة حقيقية تنزع لنمط لا يتناغم مع لغة اليوم. العقل الضيق والوقوع ضحية قناعات وأفكار والاستسلام بها يكشف الضحالة الفكرية لهذا الفرد أو ذاك.
ولو سلمنا عبثاً بوجود المؤامرات الخارجية ودورها في اختراق المجتمعات العربية وهدف تفتيتها، فالحقيقة المُرة تُخبرنا أيضاً أنه لو لم تكن هشاً في الداخل وجبهتك الداخلية مهزوزة لما استهدفت من الخارج، ولذا فالملوم هو أنت في بداية الأمر وآخره!
وفي هذا السياق، هناك من يرى أن الصراع والنزاع والعنف تأتي من الطبيعة (السلوك البشري) مقابل الفلترة العقلية التي تأتي من القانون (تطبيق النظام). المفكر جاك دريدا سبق أن شخّص الدولة كمعادلة بين طرفين، فشبّه العلاقة بين القانون والطبيعة بالجسم الميكانيكي، لكون الأول نظاماً للعيش المشترك، في حين أن العقد الاجتماعي ما هو إلا إجراءات وإرادات فردية.
على أي حال، هي مقاربة في مفهوم التعاقد بين القانون كعقل والعقد الاجتماعي من حيث هو رباط نفعي، ليصل إلى غاية أسمى هي تحقيق السلم الأهلي في المجتمع، وهو مثار نقاشنا في المقال.
هذا الهاجس في الخشية من تفاقم الصراع الطائفي الذي يهدد السلم الأهلي، سيطر على المشهد برمته ما دفع بالكثيرين إلى توقع حدوث الأسوأ في القادم من الأيام. وهم محقون في ذلك على اعتبار ما نشهده الآن من صراع دائر في اليمن وما يفعله الحوثيون من أعمال وممارسات، علاوة على ملفات قديمة/جديدة، كملف الأقباط في العالم العربي، والتوتر السني العلوي الكردي في سوريا، والاحتدام السني الشيعي في العراق، والفرز الطائفي في لبنان، وخلافات الإسلاميين مع بقية قوى المجتمع في ليبيا وتونس والجزائر والأردن، وسعي وتغلغل الجماعات المتطرفة في عالمنا العربي كلما حانت لها الفرصة، كلها أدلة قاطعة على انقسامات لا تلبث أن تعوق التحول الديمقراطي والتعايش السلمي.
هذه المأساة تتطلب تدخلاً سريعاً بإعادة النظر في العلاقة بين الدولة والمواطن، فضلاً عن مراجعة الدساتير بما يحقق تطلعات شعوبها ويعزز وحدتها الوطنية وخلق حالة من التوازن بين المصالح العليا للدول والمطالب الشعبية، وأن تبثّ مفهوم التعايش والتسامح داخل مجتمعاتها، فضلاً عن الآخر، وأن تكرس المساواة والعدل وتحارب الفساد.
ما لم تتغير العقلية السياسية في بعض الدول العربية في تعاطيها مع ملفات الداخل ورفضها التدخل الخارجي، فإن ذلك يعني فتح الباب لتكريس الطائفية وشرخ الوحدة الوطنية، وما لم تشرع بإصلاحات جذرية وتعزيز المواطنة والارتهان للدستور، فإن عوامل الانقسام والفوضى والتشظي الداخلي مرشحة لأن تقود تلك البلدان إلى الهاوية بعد أن طفت على السطح، ووقتها لا ينفع البكاء على الحليب المسكوب!