بعد تنقُّلي في رحاب الرياض (مقالي الخميس الماضي) أَصل هذا الخميس اليوم إِلى تنقُّلي في رحاب "الرياض". وبين الرياض المدينة و"الرياض" الصحيفة علاقة وُثْقى في حفظ الإِرث والحفاظ عليه.

إِذا سرُّ المائدة الممتازة يكْمُن في "مطبخها" الذي يهيِّئُها كي تكون ممتازة، فكل مائدة ثقافية تدين بنجاحها لـ"المطبخ" الذي يُعدُّها كي تكون مغايرة ولائقة وضامنة ديمومةَ نهجها وإِرثها المتين.

بين أَحَبّ أَوقاتي خلال إِقامتي أُسبوعين في الرياض: زيارتي مكاتب "الرياض"، الصحيفة الرائدة التي تستقبل مقالاتي منذ نحو سنتَين (24 سبتمبر 2020) فتنقُلني إِلى مقروئية هي الأَوسع في المملكة. كانت زيارة تَعارفية مهمَّة لي كي أُعاين الموئل والمآل.

وإِذ صحبَني من الفندق الزميلُ الصديق عبدالله الحسَني -أَحد مديري التحرير، والمسؤُول عن الصفحات الثقافية اليومية والملحق الثقافي- فتح لي في الطريق صفحاتٍ مضيئةً من نهضة الرياض حاليًّا ومستقبَلًا، مَدينةً تستقبل غدَها بثقة وشوق ورحابة، حتى إِذا بلغْنا مبنى مؤَسسة "اليمامة" (حاضن "الرياض" اليومية عربيَّتِها وإِنكليزيَّتها، وأُسبوعية "اليمامة" المجلة) كان اللقاء الأَول مع رئيس التحرير الأُستاذ هاني فريد وفا الذي استقبلني برحابته قبل مكتبه، فكانت جلسة لديه لافتة حول أُمور صحافية وثقافية وأَدبية لمستُ منها وسْع ثقافته المهنية والشخصية، ما يجعل رئاستَه أُسرةَ التحرير ضمانة وُثْقى لمواصلة انطلاقة الصحيفة راهنًا، ولتحضيرها قريبًا نهضة صحافية تقنيًّا وتحريريًّا.

الانتقال إِلى مكتب الصديق عبدالله الحسَني، أَحسسْتُني وسْط كوكبة هانئة من الزملاء في أَقسام عدَّة من الصحيفة، رحتُ أُصغي إِلى أَفكارهم فأَغْنى بها ومنها، وأُشاركهم عندياتي بما اختزنتُه طوال نصف قرن من تجربتي الصحافية، فكانت جلستي معهم مُــثْــرية إِيَّاي، وآمل أَن تكون مُــثْــريةً إِيَّاهم أَيضًا.

الجولةُ الختامية على دوائر الصحيفة، مكاتبَ وأَقسامًا، انتهَت في "مطبخ" التركيب والإِخراج، وهو المكان الأَقرب إِلى قلبي وهَواي الصحافي، فتسنَّى لي أَن أُتابع ولادة الصفحات، فلْذة فلْذة وكيانًا كيانًا، وهي متعةُ معاينة الدقائق الحاسمة التي من نبضها الذوَّاقة النهائي تولد الصحيفة في عيادة المطبعة لتَخرج آلافُ نسَخها إِلى قرائها في حلَّتها الآنق والأَزهى، بفضل كُتَّاب وتقْنيين لا يعرفهم القراء لكنَّ الصفحات التي يقلِّبونها بين أَيديهم، في مقاعدهم الوثيرة، مَدينة لهؤُلاء الأَحباء الذين، في المطبخ الصحافي، يهيِّئُون الصحيفة الورقية، وتاليًا الرقمية، كي تكون مائدة صحافية ناضجة طازجة سائغة تُشتهى قراءتُها.

هي ذي متعةُ زيارتي "الرياض" في الرياض، وأَنا أَعرف مفاصلَها نبضًا نبضًا من بَرَكَة الأَلِف إِلى مباركة الياء. فقبل خمسين سنةً تمامًا (1972) بدأَتْ رحلتي الصحافية في "النهار"، كُبرى صحُف لبنان، ورحتُ أُتابع مراحل الولادة شغوفًا: منذ تصحيح "البروفات" في المطبعة بين رائحة الحبر وصهيل الآلات ولفائف الورق، فإِرسالها إِلى الإِخراج بملاحظات حجْم الحرف وعرض العمود، حتى تركيب الصفحات أَعمدةً متجانبة، بلوغًا إِلى صدورها عند صياح الديك. متعة هذه! متعة رائعة جعلتْني أُزامل كبارًا في "النهار" على رأْسهم غسان تويني، وبعدها أَربع سنوات في "الحوادث" في هيبة سليم اللوزي، ونعمتُ من تويني واللوزي باحتضانهما قلَمي الطريّ في مطالعه الزَغبة. وما كان يمكن لي أَن أَكتسب خبرتي الصحافة الغنية لولا احتضانُهما قلمي بخبرتهما الفذَّة.

بهذه الخلفية المهنية زرتُ "الرياض" في الرياض، وجالستُ أَرَكانها، وغَنِمْتُ منهم، وتبادلتُ معهم ما لديَّ مع ما لديهم، وإِذاني بعد اليوم، فيما أَكتُب مقالي، أَرى عن بُعدٍ مسيرتَه منذ وصوله حتى صدوره في "حروف وأَفكار"، فأَشعر أَنني معهم أَكتُب وأَحرِّر، وهذه في ذاتها متعةٌ أُخرى.