يرجع مرجوعنا إلى مصير الودائع في المصارف. ولا عجب أن تستأثر هذه المسألة باهتمام استثنائي يدفع الكتاب والمحلّلين، وسائر المعنيّين، إلى التركيز عليها وطرحها تكرارا على بساط البحث.
فالودائع بالعملات الأجنبية، على وجه الخصوص، التي تبخّرت نتيجة سياسات متعمّدة وقرارات واعية اتّخذتها السلطات عن سابق تصوّر وتصميم، تمثّل معظم الادّخار الوطني بالنسبة إلى الأفراد وإلى المجتمع اللبناني ككلّ. هذه الودائع كانت تمثّل عشيّة الانهيار خريف سنة 2019 ما يقارب ضعفي الناتج المحلّي الإجمالي وتقدّر اليوم بأربعة أضعاف الناتج، بعد الانكماش السريع والمريع في حجم الاقتصاد اللبناني بفعل الأزمة.
خلال اجتماعه مع لجنة المال والموازنة، الأسبوع الماضي، أراد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن يبدّد القلق الذي أحدثته خطّة التعافي السابقة، فأوحى بأن الحكومة تتّجه إلى مقاربة المشكلة بمنهجية جديدة تتضمّن استعدادها لتأسيس "صندوق للتعافي" يتيح إسهام الدولة، مبدئيا، في تغطية جزء من الخسائر. ليس الهدف "ابتلاع" موجودات الدولة، لكن الأرقام البسيطة تبيّن أنه بدون مساهمة الدولة لا مجال مطلقا لإعادة الودائع إلى أصحابها. ثم إن عدالة توزيع الخسائر تحمّل المصارف المسؤولية عن الخسائر الناتجة عن قروضها للقطاع الخاص واستثمارات أخرى، فيما تتحمّل الدولة المسؤولية عن خسائرها المباشرة وخسائر مصرف لبنان.
إشارات رئيس الحكومة في هذا الصدد بقيت "عمومية" وغير ملموسة، ما دفع النوّاب إلى مطالبته بخطّة واضحة ومكتوبة تؤكّد ما همس لهم به بأن عليهم نسيان خطّة التعافي السابقة لأنها لم تعد واردة، كما نُقل عنه.
لكن مستشار رئيس الحكومة الدكتور سمير الضاهر، المنخرط في التفاوض مع صندوق النقد الدولي، نفى بحدّة هذا الاحتمال خلال ندوة تلفزيونية مساء الأحد. ولا يُستبعد أن يعكس الدكتور الضاهر في ذلك، أيضا، رأي الدكتور سعادة الشامي، نائب رئيس الوزراء ورئيس الفريق المفاوض مع صندوق النقد الدولي.
فالشامي متشدّدٌ في رفض مساهمة الدولة في تغطية الخسائر مبرّرا تشدّده بأن صندوق النقد يرفض مشاركة الدولة في تغطية الخسائر، وموحيا بأن موقف الصندوق هذا يعتبر من ركائز اتّفاقه الأوّلي مع الحكومة اللبنانية. فهل كان رئيس الحكومة بموقفه المستجدّ يغامر بالانقلاب على الاتّفاق الأوّلي مع الصندوق؟ هذا ما سيظهر في قابل الأيام.
على كلّ حال، وبكلّ احترام لنائب رئيس الحكومة، فإنّه لم يستطع إقناع كل الناس بأن صندوق النقد يرفض بصورة مطلقة وقاطعة مساهمة الدولة في سدّ الفجوة الهائلة في ميزانية المصارف ومصرف لبنان. إن "عقيدة" صندوق النقد، والليبراليين عموما، ترفض تحميل القطاع العام خسائر القطاع الخاص وفشل مشاريعه، فهذا نهج كان متّبعا في الاقتصاديات الشيوعية وكان من أسباب انهيارها.
لكن هذه القاعدة لا تنطبق على الحالة اللبنانية الراهنة، حيث أن خسائر النظام المالي نتجت في المقام الأوّل عن مشاكل المالية العامّة، واضطرار الدولة إلى استخدام الودائع لتمويل عجزها المالي ومنع هذا العجز من "تفجير" سعر صرف الليرة اللبنانية. ولو دافع الشامي عن هذه النقطة "بحماس" لكان أقنع موظفي صندوق النقد بخصوصية الوضع اللبناني وانتزع، دون عناء، موافقتهم على مشاركة الدولة في سدّ الفجوة الكبيرة في النظام المالي اللبناني.
أسباب أخرى، عديدة، تجعل تطمينات رئيس الحكومة بشأن الودائع غير مطمئنة، وغير كافية لكي تنعم على المودعين براحة البال. والمجال هنا لا يتّسع لعرض كل هذه الأسباب بتفاصيلها، وحسبنا أن نكتفي بالإشارة إلى أن الرئيس ميقاتي ربط مساهمة الدولة في ردم الخسائر بتحقيق نتائج باهرة على صعيد المالية العامّة، خصوصا تحقيق فائض مستحيل في الرصيد الأوّلي للموازنة.
من جهة أخرى، فإن التعافي المالي هو جزء من برنامج واسع للإصلاح، يصعب تصوّر قدرة الدولة وتوافق قوى السياسة والمجتمع على تحقيقه.
يتضمّن البرنامج الموعود تقليص عجز مالية الدولة لتحقيق استدامة الدين العام. وهذا يتطلّب، من بين شروط كثيرة، فرض زيادات كبيرة على الإيرادات الضريبية تطال بالدرجة الأولى الضرائب على الاستهلاك، ووقف دعم الكهرباء. ويفترض أن يتزامن ذلك، في جانب النفقات، مع صرف ثلث موظّفي الدولة وإقفال عشرات المؤسّسات الحكومية.
إذا كانت كل أضلاع البرنامج الإصلاحي مترابطة، حسب الاتّفاق مع الصندوق، والتعافي المالي والمصرفي موصول بالتعافي الاقتصادي، فذلك يقلّل من فرص الاطمئنان إلى قرب الخروج من المأزق الكبير.
التعليقات