تلعب «التسريبات» السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية دوراً خطيراً في قرارات مصيرية أحياناً، وفي حدوث أزمات سياسية بين بلدين، وقد يصل الأمر في الغرب إلى فضائح أخلاقية تتصدر الصفحات الأولى من صحف الأحد. ومنذ سنوات قليلة قرأت في صحيفة عربية أن ما يسمى «صحافة التسريبات» ربما تتحول إلى نوع صحافي متخصص يتجاوز ما يُعرف بالصحافة الصفراء.
نشر جوزيف ويلسون مبعوث المخابرات المركزية الأميركية إلى دولة النيجر، مقالاً في صحيفة «نيويورك تايمز» في يوليو (تموز) 2003، ذكر فيه أن ادعاء جورج بوش الابن أن العراق حاول شراء اليورانيوم من النيجر هو «مجرد ادعاء لا أساس له من الصحة واستخدمه بوش لتبرير الحرب العدوانية». وفي ذلك الوقت كشفت صحيفة «واشنطن بوست» تسريباً ذكرت فيه أن فاليري بليم زوجة ويلسون هي الأخرى عميلة في المخابرات المركزية الأميركية، وبكشف هويتها تعرض عملها التجسسي للخطر. وتم إنتاج فيلم سينمائي عن قصة الجاسوسين بليم وزوجها ويلسون في عام 2010 تحت عنوان «لعبة عادلة» تناول قضية التسريبات الكاذبة.
في أكتوبر (تشرين الأول) 2010، نشرت وثائق ويكيليكس ما يقرب من 400 ألف وثيقة عسكرية سرية تتعلق بغزو العراق في عام 2003. بينما نشرت عن الحرب في أفغانستان 77 ألف وثيقة. ومن بين الوثائق المسربة عن غزو العراق مذكرة «داوننغ ستريت» التي أثبتت أن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير لم يقولا الحقيقة بشأن أسلحة الدمار الشامل المزعومة لتبرير غزو العراق واحتلاله. وقد نَشرت تلك الوثائق صحيفتا «نيويورك تايمز» الأميركية و«الغارديان» البريطانية ومجلة «دير شبيغل» الألمانية. وهذا يعني أن من بين أربعمائة ألف وثيقة مسربة عن غزو العراق لم تُنشر إلا وثائق محدودة منصفة وذات قيمة.
ومن بين ما كشفت عنه تلك التسريبات الدليل الكامل على أن الجيش الأميركي تجاهل عن عمد إساءة معاملة المعتقلين على يد حلفائه العراقيين، وأنه كان هناك بالفعل ما لا يقل عن عشرات الألوف من الضحايا المدنيين أكثر مما كان معترفاً به من قبل. ووصف معارضو الحرب مذكرة «داوننغ ستريت» بأنها دليل دامغ على أن بوش وبلير قررا سراً غزو العراق وتلاعبا بالاستخبارات لدعم ذلك القرار وثبت دولياً بعد ذلك أن العراق لا يملك أسلحة دمار شامل من أي نوع.
والعراق ليس الدولة الوحيدة التي طالتها التسريبات، فهناك رؤساء دول شهّرت بهم الوثائق وأطاحت بغيرهم؛ مثل الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون بطل قضية «ووترغيت» ودفعته للاستقالة.
هل حقاً أن التسريبات هي «الكورونا» في غرف الأخبار؟ هذه ظاهرة لم تعد عادية بفعل تداعياتها وحساسيتها وتزداد قراصنة الأخبار أو تحريف الصور والفيديوهات.
نترك الماضي القريب والبعيد ونعبر الزمن إلى الحرب الروسية في أوكرانيا التي يصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنها «عملية عسكرية خاصة»، ولم نقرأ أو نسمع في التاريخ عن وجود «عملية عسكرية خاصة» تستمر حتى الآن أكثر من خمسة أشهر، وربما ستستمر سنوات إذا لم ترفع كييف راية الاستسلام أمام موسكو. لقد شهدت الأيام السابقة لبدء هذه الحرب المدمرة «تسريبات» خطيرة معظمها تنبؤات، وتعاملت الصحف معها حسب قيمتها الخبرية. وما زلنا نتذكر أن تلك الأيام حفلت بـ«تسريبات» غربية عن استعداد روسيا لشن حرب على أوكرانيا وحشود كثيرة من الجيش الروسي على الحدود، نفتها كلها موسكو، مشيرة إلى أنها مناورات عسكرية مشتركة مع جمهورية بيلاروسيا. ودخلت على الخط فرنسا، حين قيل إن محادثات هاتفية جرت بين الرئيس بوتين والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وثار سجال بين روسيا والغرب بعد أن استاءت موسكو من «تسريب» فحوى تلك المحادثات الرئاسية الحساسة. لكن باريس ردت بأن روسيا تمارس عملية تضليل سياسي وعسكري بالتسريبات عن المناورات والحشود. وأثار «لغطاً فوضوياً» تصريح للمتحدث الرسمي للكرملين ديمتري بيسكوف وردت فيه عبارات من نوع «تضليل وهيستريا ومخاوف»، وهي عبارات لا تتماشى مع العرف الدبلوماسي على مستوى الرؤساء.
إلا أن كلمة الحق قالها النائب الأول للمندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي حين أكد أن «تقييمات المخابرات الأميركية والبريطانية بشأن أوكرانيا لا يمكن الوثوق بتسريبها، لأن هذه الأجهزة المخابراتية ارتكبت كثيراً من الأخطاء الفادحة في الفترة التي سبقت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق». واختتم المسؤول الروسي تصريحه الذي أعاد إلى الأذهان خطورة التسريبات والاتهامات والأكاذيب التي وجهت للعراق قبل غزو عام 2003 قائلاً: «تكفي مسألة أسلحة الدمار الشامل في العراق».
من الطبيعي أن بعض «التسريبات» التي تنشرها الصحف في القضايا الحساسة تحتاج إلى ما يشبه «التأكيد» لحماية الثقة فيما يُنشر، وليس الاكتفاء بعبارة «ذكرت تسريبات»، لأن التسريبات ليست مصدراً ولا خبراً مكتملاً. ولكي لا نغلق الأبواب أمام «التسريبات»، قد تكون هذه متعمدة أو غير متعمدة، فقد يقدمها المُسرب خدمة شخصية للصحافي أو مختصرات من أخبار سيتم نشرها. لكن في الغالب يتعمد المُسرب عدم الإعلان عن اسمه أو وظيفته لأنه مؤتمن عليها أو يخشى عواقبها. وقد يرغب السياسيون وأصحاب القرار إجراء «بث تجريبي للمعلومات» من دون الإفصاح عن شخصياتهم.
واشتهرت ظاهرة التسريب منذ عام 2006 مع ظهور مؤسسها الأسترالي جوليان أسانغ الذي تعرض لمطاردات دولية لإلقاء القبض عليه بعد شيوع وثائق سرية عائدة إلى دول مختلفة من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا. وهذه التسريبات لا تقتصر على السياسة أو الاقتصاد، فهي سربت معلومات رياضية وسينمائية أيضاً، وكشفت مقتل 66 ألفاً من المدنيين في العراق، وهو رقم يقل كثيراً عن إحصائيات ضحايا الغزو منذ 2003، سواء عن طريق الأميركيين أو الإيرانيين أو «داعش» أو الميليشيات الموالية لإيران؛ وقد يصل الرقم إلى أكثر من مليون ضحية لا علاقة لهم بالسياسة. ولم تتيسر معلومات حصلت عليها هذه المؤسسة عن إسرائيل ولا عن ضحايا دول «الربيع العربي» في سوريا واليمن وتونس والسودان.
المفاجأة في عمليات «ويكيليكس» لقنص الأخبار والمعلومات أنها شملت تعطيل أعمال سيارات الأجرة في أوروبا لصالح شركة سيارات الأجرة «أوبر» التي ضغطت على وزراء بريطانيين بارزين لكسب تأييدهم.
باختصار: «التسريبات» ليست أخباراً مؤكدة، ويستحسن التأكد من صحتها من مصادر أخرى قبل النشر. وكنا تعلمنا من الدكتور المصري الراحل عبد اللطيف حمزة أستاذ الصحافة المنتدب من مصر إلى جامعة بغداد في الستينات من القرن الماضي، أن الأخبار العشوائية غير المنسوبة «حكايات مقاهٍ وأرصفة» وكنا نسميها «القيل والقال».
التعليقات