ليس تكرار الشغور الرئاسي سوى مظهر لمشكلة عميقة هي "أم الأزمات"، اسمها التحول المفروض على وظيفة لبنان ودوره. والفراغ مستمر، ولو جرى إنتخاب رئيس يكمل التحول أو يتعايش معه في أحسن الأحوال. فلا بد من مواجهة التحول أولاً لإستفادة لبنان "المجنّد" للقيام بوظيفة محلية فوق طاقته ودور إقليمي معاكس لطبيعته وتكوينه. ولا مجال لتجاهل التجارب والدروس التي دفعنا ثمنها دماً ودماراً وأزمات وفراغاً. فحين إزداد فائض القوة السياسية والإقتصادية المارونية كان الرد حرب لبنان. وعندما كبر فائض القوة السياسية والمالية السنية كان الرد إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. والثقل الطابش اليوم هو إزدياد فائض القوة العسكرية والسياسية والإجتماعية الشيعية.

ذلك أن البلد واقع في أزمات عميقة بلا حلول على طريق بلا نهاية. وهو أسير مشروع إقليمي لا مستقبل له، وإن بدا قوياً في الحاضر. مشروع ثيوقراطي يديره ملالي إيران ويصنع نماذج لا سابق لها في أربعة بلدان عربية: تأسيس ميليشيات مذهبية تحمل السلاح تحت عنوان "محور المقاومة" وتلعب في الوقت نفسه دور الهيمنة على السلطة، لا مجرد المشاركة فيها.

في اليمن إنقلاب حوثي على شرعية الثورة قاد الى حرب وإنقسام البلد. في العراق حشد شعبي مسلح بداعي محاربة "داعش" فرض على السلطة تمويله وتشريعه، وأصر على تأليف الحكومة مع أنه خسر الإنتخابات. وفي سوريا ميليشيات مسلحة لم تشارك في السلطة لكنها تحميها وتقيم سلطة موازية في مناطق محددة. وفي لبنان "حزب الله" الذي قاوم الإحتلال الإسرائيلي ثم أصر بعد التحرير على البقاء كمقاومة إحتياطية لمواجهة أي إعتداء إسرائيلي محتمل من دون القيام بعمليات مقاومة حتى في مزارع شبعا، ثم شارك في حرب سوريا وتدخل في العراق واليمن. ويصر، لا فقط على مشاركة في السلطة بل على التحكم برئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ورئاسة الحكومة. لكن مهمة "محور المقاومة" في المدى المتوسط هي إقامة جبهات أمامية للدفاع عن المشروع الإقليمي الإيراني.

ومن الصعب على لبنان أن يستمر في تحمل هذا العبء الثقيل والقيام بدور جيوسياسي أكبر منه، حتى لو لم يكن في أزمات وطنية وسياسية وإقتصادية ومالية وإجتماعية عميقة وخطيرة: الإرتباط بالمحور الإيراني، التهجم على العرب والغرب الذين كانوا ولا يزالون سند لبنان، وإلتزام إزالة إسرائيل من الوجود وطرد القوات الأميركية من "غرب آسيا". ومن دون العودة الى الموقع الجيوسياسي الطبيعي والتاريخي للوطن الصغير، فإن الإنهيار يكتمل. والمشكلة الأكبر هي عجز "محور المقاومة" عن الإمساك رسمياً بالبلد وإدارته وحتى تغيير نظامه. فما تفضله "المقاومة الإسلامية" في بلد من 18 طائفة هو التحكم به لا حكمه مباشرة. وهذا ما يجعل تكرار الشغور نوعاً من التقليد. لا بل إن فرض الشغور لعامين ونصف العام للمجيء بالرئيس ميشال عون جعلنا نرى "الرئيس القوي" يقف عاجزاً عن وقف إندفاع لبنان الى "جهنم" ثم يقول بعد سنوات: "ما خلونا".

في القرن التاسع عشر قال مستشار النمسا مترنيخ: "هذا البلد الصغير يجب صيانته من العنف". وفي القرن العشرين قال ميشال شيحا: "هذا البلد الذي من واجب العناية أن تصونه من العنف". لكن التحول جعل لبنان أرض العنف، بحيث قال المستشرق برنارد لويس إن "لبنان عانى لا بسبب أخطائه بل بسبب مزاياه".