توصف السياسة الأميركية، بأنها براغماتية، تستند فيها قرارات القادة الأميركيين على المصلحة، وليس هناك مكان للأيديولوجيا. وقد اعتاد الإعلام الأميركي، حتى انتهاء الحرب الباردة، توجيه تهمة الدغمائية لغريمه السوفييتي.

ومع التسليم بأن السياسة الأميركية، اعتمدت في الأغلب على تبني مبدأ ليست هناك صداقات أو عداوات دائمة بل إن البوصلة دائماً هي المصالح، لكن القادة الأميركيين كانوا يستخدمون مصطلحات أيديولوجية في مواجهة خصومهم، سواء في الحرب ضد النازية، أو في ما بعد أثناء احتدام الحرب الباردة. فدول المحور، وصفت بقوى الشر، والصراع مع الشيوعية هو صراع بين الإيمان والإلحاد. وقد تعدّى ذلك إلى المواجهة الإعلامية، حين طرحت إدارة الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، في الخمسينات من القرن الماضي، مشروع ملء الفراغ في «الشرق الأوسط»، وتبنت مشروع وحدة الأديان السماوية. وبلغ الأمر حد الدعوة لعقد مؤتمر في بحمدون بلبنان يضمّ علماء دين مسلمين ومسيحيين، لصياغة استراتيجية لمواجهة التغلغل الشيوعي، في أوساط الشباب.


لكن تلك المواقف الأيديولوجية لم تمثل نهجاً عاماً في السياسة الأميركية، ولم تحُلْ دون التعاون المشترك بين الغرماء، للحد من سباق التسلح النووي، وعقد معاهدات مشتركة للحد من مخاطر سلاح الرعب، كما لم تحُلْ دون انفتاح السياسة الأميركية، في أواخر الستينات من القرن الماضي على الصين الشعبية، في أوج اشتعال ثورتها الثقافية، التي قادها ماو تسي تونغ، حين قام هنري كيسنجر مستشار الرئيس ريتشارد نيكسون بزيارة للصين الشعبية، والتقى الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، ماو.

يمكن القول إن الانتقال الواضح في السياسة الأميركية، من البراغماتية إلى الأيديولوجيا، قد أخذ مكانه في مطالع الثمانينات من القرن الماضي، حين تسلم رونالد ريغان، الذي شغل منصب حاكم كاليفورنيا، عن الحزب الجمهوري سُدّة الحكم، في البيت الأبيض، لدورتين رئاسيتين، أعقبهما تسلم نائبه جورج بوش سدة الرئاسة لدورة واحدة. وقد كان ذلك حالة استثنائية ونادرة في العصر الحديث بالنسبة للجمهوريين؛ حيث لم يكن مألوفاً أن يتسلموا دفة الرئاسة لثلاث دورات متعاقبة. وقد شكل عهد ريغان بداية التغلغل الواسع للدولة العميقة في شؤون الحكم، بحيث طغى هذا الدور في كثير من الأحيان، كما كان الحال أثناء فضيحة «إيران غيت».

في عهد الرئيسين ريغان وبوش نشطت الكنيسة أكثر من أي وقت مضى. وتبنّى الرئيسان شعاراتها ومطالبها، كمنع الإجهاض، ومحاربة المخدرات، ومعارضة المثليين. والغريب أن تلك اللحظة شهدت صعوداً موازياً للكنيسة في أميركا اللاتينية، ولكن باتجاه معاكس، حيث دعمت حركات التحرر، والمطالبة بفك الارتباط الاقتصادي والسياسي، ودعت إلى تخلص أميركا الجنوبية من الهيمنة الأميركية.

وصل بيل كلينتون لسدة الرئاسة، عام 1993، في ظل أزمة اقتصادية حادة عانت منها الولايات المتحدة، وانهمك طوال دورتين رئاسيتين، بمعالجة الأوضاع الاقتصادية المتردية، وشهدت البلاد أثناء رئاسته انتعاشاً اقتصادياً، أدى إلى تراجع البطالة وزيادة الدخل، وانتهى بتضخم كبير في الأسعار. وانشغلت إدارته أيضاً، بترتيب وإعادة تشكيل دورها السياسي والعسكري في العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والكتلة الاشتراكية.

في عام 2001 تسلم جورج بوش الابن سُدة الرئاسة، بعد صراع حاد بين الحزبين المتنافسين، الجمهوري والديمقراطي، على نتائج الانتخابات الرئاسية وبشكل خاص في ولاية فلوريدا، التي جرت آنذاك وتنافس فيها نائب الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، ألبرت آل غور وجورج بوش الابن، حسمت في النهاية لصالح الأخير، لكنها ألقت بظلال كثيرة، على مشروعية وصوله إلى البيت الأبيض.

وصل بوش الابن للرئاسة، مدعوماً بكتلة المحافظين الجدد، الذين برز من بينهم ريتشارد بيرل، وديك تشيني، ودونالد رامسفيلد. وفي السنة الأولى لوصوله للحكم، حدث إعصار 11 سبتمبر/أيلول 2001؛ حيث جرى اختطاف أربع طائرات مدنية، كانت في رحلات داخلية، وتوجهت طائرتان لمبنى مركز التجارة الدولي بنيويورك، وطائرة ثالثة توجهت لمبنى البنتاغون بمدينة واشنطن، وأسقطت الطائرة الرابعة في ظروف مجهولة. واستغلت تلك الحادثة لإعادة تشكيل الخريطة السياسية بالشرق الأوسط. ورفعت شعارات أيديولوحية مثل شعار «من ليس معنا فهو ضدنا»، وجرى تقسيم العالم إلى محورين: محور الخير وتقوده أميركا، بزعامة بوش، والمعسكر الآخر هو معسكر الشر، ويشمل جميع الدول التي تناهض سياساتها.

واستخدمت أثناء الحرب لاحتلال العراق وأفغانستان، عبارات، لم تكن مألوفة من قبل الزعماء الأميركيين في السابق، كالحرب الصليبية، ودمقرطة الشرق الأوسط، وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية، وجميعها تعابير، تحمل مضامين أيديولوجية. وكانت حقبة استثنائية، والفوضى الخلاقة، لم يشهد لها العالم مثيلاً، منذ سقوط المكارثية التي برزت في الأيام الأولى للحرب الباردة.