زيارة رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي الناجحة إلى واشنطن هذا الأسبوع، كانت مثالاً جيداً على استعداد إدارة الرئيس جو بايدن للتأقلم بدلاً من التحدّي، لجذب الشركاء بنعومة إلى حيث تتمنى. دلالة الشراكة الاستراتيجية واضحة، كما اعتبارات الانتخابات الرئاسية الأميركية. اللافت شمل التقبّل الأميركي لمواقف الهند نحو روسيا، والحرب الأوكرانية، التي تتمنّى واشنطن لها أن تتغيّر لاحقاً، تجنّب الانتقاد المعهود لسجلّ حكومة مودي في حقوق الإنسان، والاكتفاء بمواقف الهند نحو الصين كما هي، بلا محاولة لتأجيجها. فالهند اليوم طاقة اقتصادية وتكنولوجية ضخمة، تؤهّلها لمنافسة الصين، بل أنّ سياساتها المرنة قد تضعها في مقعد القيادة الاقتصادية، عالمياً، وبصورة أكثر مرئية من الصين.
ما أنجزته زيارة مودي إلى واشنطن شكّل انعطافة لموقع ومكانة مستقبل الهند في العلاقات الثنائية، بدلاً من حصر العلاقة الثنائية في خانة مواجهة تحدّيات الصين.
كان واضحاً أنّ الأولوية للرئيس الأميركي ولرئيس وزراء الهند، ارتكزت على تمتين العلاقات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، لتدعيم العلاقة الاستراتيجية بين الهند والولايات المتحدة بحدّ ذاتها. واشنطن تعي أنّ الهند، من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية، تتحوّل إلى صينٍ جديدة، وأنّ نفوذها لا يُستهان به. كلاهما، قرّرا أنّ الوقت حان لتأمين العلاقة الأميركية- الهندية، وللتحرّك في إطار التعاون العسكري والأمني، إنما من دون ممارسة الضغوط لتغيير المواقف التي لا يتفق عليها الطرفان.
في موضوع أوكرانيا، وفي البيان الختامي المشترك، أتت الإشارة إلى احترام سلامة أراضي أوكرانيا، كمؤشر إلى تغيير في مواقف الهند التي كانت قد سعت في السابق لتجنّب اتخاذ مواقف في مسألة أوكرانيا.
وفي موضوع العلاقات الاقتصادية والنفطية الضخمة بين الهند وروسيا، تجنّبت واشنطن انتقاد تلك العلاقة التي بلغت 40 مليار دولار من المبيعات النفطية الروسية للهند. فالهدف الأهم لإدارة بايدن هو أن تحلّ الولايات المتحدة مكان روسيا في مجال إبرام العقود العسكرية ذات المردود المالي الضخم، كما الأهمية الأمنية ذاتها في العلاقة الاستراتيجية.
إدارة الرئيس الأسبق دونالد ترامب تبنّت أسلوب الصرامة والضغط على الهند لدفعها بعيداً من روسيا. إدارة بايدن اختارت أسلوب الخطوة خطوة، مقترناً بتواجد أميركي أكبر في الهند، مع الإصرار المتماسك على صفقات الأسلحة. لذلك، تتجنّب إدارة بايدن إحراج حكومة مودي في مجال حقوق الإنسان. فإدارة بايدن اعتمدت سياسة الإنخراط الطري والناعم Smooth involvement مع الهند، وليس الدفع بالهند إلى الطلاق مع روسيا أو المواجهة مع الصين.
مودي مرتاح لهذا الأسلوب، لأنّه يرى فائدة في استمرار مشاركة الهند في التجمّعات الواضحة تجاه الصين، وبصورة خاصة الرباعية المعروفة بـ"كواد"، أي الحوار الأمني الاستراتيجي بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، والذي تنظر إليه الصين بعين المحور المعادي لها. هذا كافٍ في نظر مودي الذي يريد تفادي التورّط في نزاعٍ مع الصين.
بايدن تمسّك بوصفه الرئيس الصيني شي جينبينغ بالديكتاتور مطلع الأسبوع الماضي، والذي بدا وكأنّه زلّة لسان، في خضم حشد إنتخابي أثناء المؤتمر الصحافي المشترك مع مودي. لم يتراجع بايدن عن وصفه لشي بالديكتاتور، لأنّ من شأن ذلك أن يعمّق الانطباع بأنّه يرتكب أخطاءً عديدة سهواً- وهذا ليس في مصلحته الإنتخابية. حاول الرئيس الأميركي تلطيف وطأة الوصف، فقال إنّه لم يعقّد أو يقوّض العلاقات مع الصين، وإنّه يتوقع لقاء الرئيس الصيني في المستقبل القريب، وأن لا تداعيات لآراء كهذه على العلاقة الأميركية- الصينية.
رأي الصين يختلف. فهي احتجت رسمياً في رسالة قدّمها السفير الصيني لدى الولايات المتحدة، وطالبت بالتراجع عن تلك التصريحات، وإلاّ مواجهة عواقب. لكن الصين بدورها لا تريد التصعيد حالياً مع الولايات المتحدة، والأرجح أنّ الديبلوماسيتين الصينية والأميركية ستجدان مخرجاً من هذا الإحراج، لاسيما وأنّ زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى بكين- والتي تزامنت تصريحات الرئيس الأميركي معها- تميّزت بلهجة التهادنية ومحاولة بناء "خطوط اتصال أفضل"، كما قال بلينكن، للمساعدة في ضمان "ألاّ تتحوّل المنافسة إلى صراع".
سجل الرئيس جو بايدن حافل بزلاّت اللسان والتصريحات التي أثارت عواصف وتعقيدات في ملفات السياسة الخارجية. فهو سبق ووصف الرئيس الصيني بأنّه "سفاح" عام 2020. وهو الذي أعلن أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "لا يمكن له البقاء في السلطة"، فأسرع البيت الأبيض ليشرح أنّ تلك ليست إشارة أو سياسة تغيير نظام. فإحدى "مشاكل" الرئيس الأميركي بايدن، هي أنّه يعبّر عن رأيه وشعوره بسرعة لا تتماشى مع متطلبات الديبلوماسية. وبالتالي، ليس ما يقوله بالضرورة زلّة لسان، وإنما قد يكون تعبيراً صادقاً عن مشاعر الإدارة الأميركية الحقيقية.
المعضلة هي أنّ الولايات المتحدة هي التي تحتاج لإيضاح العلاقة الأميركية- الصينية، لأنّ الصين ليست في عجلة- وحتى وإن كانت، فهي لن تعبّر عن ذلك، لأنّ الغموض جزء من عقليتها وسياستها. لذلك، فإنّ العلاقة قد تتحمّل الزلاّت والهفوات، لكنها ستتأثر بها بصورة لا تتمناها إدارة بايدن. فالمهم أنّ الولايات المتحدة والصين لا تريدان المواجهة، والديبلوماسية الأميركية تقول للديبلوماسية الصينية إنّ إساءة استخدام التعابير والكلمات الشفوية نفسها ليست السياسة، وإنما السياسة هي في البيانات المدروسة حرفيّاً وبدقّة- وهذه تشكّل ملامح وتفاصيل السياسة الخارجية.
الرسالة الأميركية إلى الهند كانت مهمّة في المضمون والشكل، في الشفهي وفي البيانات المدوّنة. الرئيس بايدن وصف العلاقة مع الهند بالدينامية، واستقبل رئيس الوزراء مودي بوصفه ضيفاً رسمياً له بروتوكولات خاصة، تُقام له مأدبة رسمية في البيت الأبيض، وله كلمة أمام كل من مجلس النواب والشيوخ. فرئيس وزراء الهند هو الضيف الثالث الأجنبي فقط الذي حظي بتكريم كالذي تلقّاه منذ تسلّم الرئيس بايدن الرئاسة الأميركية- وكان سبقه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ثم الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول في نيسان (أبريل) الماضي.
فإلى جانب تمتين وتوسيع العلاقات التجارية والأمنية والعسكرية، وفي مجال الطاقة والتكنولوجيا والفضاء، إنّ اقتناع الرئيس بايدن بأنّ الولايات المتحدة والهند هما "دولتان عظيمتان، صديقتان عظيمتان، قوتان عظيمتان، يمكنهما تحديد مسار القرن الـ21"، وأن تكونا قدوة لمواجهة تحدّيات القرن، ليس أبداً كلاماً عابراً ولا زلّة لسان.
إنّها لغة الاحترام الكامل لدولة ناشئة بالأمس القريب، وهي اليوم دولة ناضجة تفرض نفسها في موازين وتعابير العظمة.
- آخر تحديث :
التعليقات