في رصد لويس عوض لمسار الرواية المصرية ما بين منتصف الأربعينات الميلادية وسنواتها في ظل ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، في محاضرته «التطور الثقافي في مصر منذ 1952»، قدَّم نجيب محفوظ على أنَّه صنيعة هذه الثورة!

يقول: «لقد قوبل بالترحاب من الجميع لأسباب مختلفة، أو ربما لأسباب واضحة. فالماركسيون ظنوا أنَّه اشتراكي، ورجال الثورة كانوا سعيدين أشدَّ السعادة به لأنَّه بطريقة ما شوّه ثورة 1919 في ثلاثيته، حيث نجد أوصافاً فاضحة جداً لثورة 1919، في الجزء الذي دعاه (بين القصرين)... على كل حال، فإنَّ بعض الناس ظنوا أن ذلك وصف رائع لثورة 1919، ولذا فإنهم أخذوا منذ سنة 1954، ينفخون في نجيب محفوظ، لقد اعترف به رسمياً سنة 1954».

ردَّ عليه مترجم محاضرته، محمد يوسف نجم، فقال: «لم يقل لويس عوض مثل هذا الكلام عن رواية (بين القصرين) في مقاله الذي نشر بالأهرام 27 أبريل 1962، بل تحدَّث عن الرواية باعتبارها تاريخ أسرة اختارها الكاتب لتكون محلَّ دراسته على طريقة الكتاب الطبيعيين، ولم يشر إلى علاقتها بثورة 1919 البتة. وقد وصفها بأنها عمل فني عظيم، وأن كاتبها بلغ درجة عالية من الصدق الفني. فما الذي غيّر رأي الأستاذ الناقد؟ أتراه اكتسب هذه الجرأة من جمهوره الأجنبي الذي كان يقهقه عالياً كلما سمع تعريضاً بكاتب عربي كبير أو بزعيم عربي كبير؟».

يطيبُ لي أنْ أستعيرَ من محمد يوسف نجم جملته التي افتتح بها ردَّه السابع على ما جاء في محاضرة لويس عوض، فأقول إنَّ كلامَه الأخير «يحتاج إلى ضبط وتعديل»، فلويس عوض في محاضرته بأكملها لم يعرّض - على مستوى الزعامة السياسية - إلَّا بعبد الناصر، الذي بيَّنت في المقال السابق أنَّه نقده بالاسم مرة واحدة. وقبل أن يفعلَ ذلك كانَ قد قالَ عنه ساخراً: «أعني أنك لا تستطيع أن تمضي في القول بأن كل فرد في مصر كان فاسداً باستثناء السيد العظيم».

هذه السخرية بعبد النَّاصر لعلَّها هي التي أثارت القهقهةَ العالية لدى جمهور المحاضرة الأجنبي وجمهورِها العربي غير المحازب لعبد الناصر.

في الباب الثابت في مجلة «الآداب»: «قرأت العدد الماضي من الآداب» عدد أكتوبر (تشرين الأول) 1972، قال سامي خشبة: «وليس من حق لويس عوض أن يتحدث عن ترحيب الماركسيين بنجيب محفوظ إلّا إذا حدده تاريخياً بعد الثلاثية لأسباب متعلقة بالتطبيق الآلي لمبادئ النقد الزادانوفي وعن سعادة رجال الثورة به إلا إذا قدم أدلة على ذلك فإن هذا من قبيل همسات المقاهي وليس من طراز الحديث الذي يمكن أن يلقيه أستاذ مثله في مثل هذا المجال».

نجيب محفوظ أنجز ثلاثيتَه قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952، وقبل قيامها قدمها للنشر، لكن ناشره سعيد جودة السحار أخَّر نشرَها لضخامة حجمها. ثم بعد سنوات اقترح عليه ناشره هذا أن يقسمَها إلى ثلاثة أجزاء، فقسمها نجيب إلى ثلاثة أجزاء هي: «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية». فنشرت الثلاثية ما بين عامي 1956 و1957. ادعاء لويس عوض أنَّ نجيب محفوظ شوّه ثورة 1919 بغرض تلميع ثورة 23 يوليو 1952، وهو رأي كرَّره، حز بنفس نجيب محفوظ، بسبب أنَّه أنجز كتابة الثلاثية وقدمها للنشر قبل أن تقوم تلك الثورة.

غير صحيح أنَّ الماركسيين رحَّبوا بنجيب محفوظ، ظنّاً منهم أنَّه اشتراكي. ففي كتاب «في الثقافة المصرية» الذي اشترك في تأليفه ناقدان مصرياً ماركسيان، هما محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، وقدَّم له الماركسي اللبناني حسين مروة، انهال عبد العظيم أنيس على روايات نجيب محفوظ «فضيحة في القاهرة» أو «القاهرة الجديدة»، و«خان الخليلي»، و«زقاق المدق»، و«بداية ونهاية»، بمآخذ نقدية ماركسية بتوجيه جدانوفي. كان فاتحتها أنَّه كاتب البرجوازية الصغير، وليس المعبر عن القوى الاجتماعية الجديدة التي تكافح لكي تؤكد وجودها. وكان يعني بالقوى الاجتماعية الجديدة، العمال المصريين.

هذا الكتاب الذي صدر في مايو (أيار) عام 1955عن «دار الفكر الجديد» ببيروت، ظل لأكثر من عقد مانفستو النقد الأدبي عند الشيوعيين المصريين والشيوعيين العرب.

صحيح أنَّ بعض النقاد الماركسيين المصريين غيّروا رأيهم في نجيب محفوظ بعد صدور الثلاثية، لكن بعضهم الآخر أخذوا عليه فيها ما اعتقدوا أنَّه تغييب متعمد منه للعمال والفلاحيين من أحداث ثورة 1919.

يقصد لويس عوض بالاعتراف الرسمي بنجيب محفوظ، سنة 1954، اعتراف رجال الثورة به بمنحه جائزة أدبية في هذا العام. رد محمد يوسف نجم على هذه المعلومة، بقوله: «أظنُّ أنَّ نجيب محفوظ حصل على جائزة الدولة سنة 1957».

ادعى لويس عوض أنَّ نجيب محفوظ استفاد من توصية من توصيات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وهي التي تقول حسب صياغته: «إن الكتابة باللغة العامية أمر موجه ضد الدولة، وأن المجلس الأعلى ينبغي ألا يمنح جوائزه للقصص والمسرحيات أو أي شيء آخر إلا إذا كانت مكتوبة باللغة العربية الفصحى... ولقد بقي نجيب محفوظ في الميدان لأنه كان يكتب حواره دائماً باللغة الفصحى حتى لو كان حواراً بين خادمة وغسالة أو أناس من هذا القبيل».

المعضلة الناجمة عن تلك التوصية، كما شخصها، أنَّ «الواقعيين الاشتراكيين لم يكونوا يمتلكون ناصية اللغة الفصحى تماماً. ولأنهم كانوا يكتبون عن العمال والفلاحيين، الأمر الذي لا يتفق مع التمسك بالفصحى، لذا آثروا أن يكتبوا حوارهم بالعامية. ولهذا وجدوا من الصعب أن يستمروا في كتابة القصة القصيرة».

أكمل كلامَه عن القطاع الأمي في روايات نجيب محفوظ الذين يتكلَّمون بعربية فصحى، فقال: «كانوا يتكلمون بلغة فصحى - لغة فصحى لا تصدق - ولذا فإنه لم يتأثر. لم يشعر أن قرار المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب معاد له. أما الآخرون فقد ساورهم هذا الشعور. وطبعاً أنا أظن شخصياً أن هذا القرار الذي يعود تاريخه إلى سنة 1955م كان من الأسباب الأولى لموت الرواية المصرية. والشخص الوحيد الذي بقي في الميدان منذ ذلك الوقت هو نجيب محفوظ الذي ورثته الثورة من العهد البائد»!

ما سمَّاه لويس عوض تارةً بتوصية وتارةً بقرار يقصد به قانون إنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب الذي أرَّخَ لنشأته بعام 1955م. وهذا المجلس أنشئ في الأيام الأخيرة من الشهر الأول لعام 1956م.

محمد يوسف نجم في ردّه عليه بيّن بالتواريخ الدقيقة أن طليعة الكتاب الواقعيين الاشتراكيين، يوسف إدريس، لم يتوقف عن كتابة القصة القصيرة والقصة بسبب هذا القرار.

في رصد لويس عوض لمسار الحياة الأدبية في مصر بين الخمسينات وأول الستينات بأنَّ مع سجن معظم الكتاب الواقعيين الاشتراكيين عادَ الأدب الرومانسي «وكذلك نجيب محفوظ بلغ قمة الازدهار». ومن موقع منصبه، وهو المستشار الثقافي في مؤسسة الأهرام، قال عن نجيب محفوظ وعن أعماله القصصية بعد هزيمة 1967: «منذ ذلك الحين لم يكتب شيئاً ذا بال. لقد حاول أن ينشر عدداً من القصص القصيرة في الأهرام، ولسوء الحظ لم نتمكن من نشرها. حدث نقاش بيني وبين هيكل. أردت أنا أن أنشرها، ولكن هيكل ساوره القلق. وطبعاً هيكل ككل رئيس تحرير لم يرد أن يظهر بمظهر من يصادر الأدب، ولذا قال: أوه... إنها فن رديء رديء. وطبعاً كانت فناً رديئاً. ورأيي أن نجيب محفوظ منذ سنة 1967، خدم الأدب المصري خدمة تبيح له أن يكتب كتابة رديئة».

وختمَ حديثَه عن نجيب محفوظ بهجومٍ مسرفٍ في عدوانيته على روايته «المرايا» التي وهو يلقي محاضرتَه كانت ما تزال تنشر مسلسلة في مجلة «الإذاعة والتلفزيون». قال عنها باحتقار شديد: «إنها ليست رواية وليست قصة قصيرة، إنها لا شيء. إنها ليست أكثر من رأيه في عدد من الشخصيات التي شغلت عالم الأدب والثقافة والسياسة في السنوات العشرين الأخيرة. ويمكنك أن تتعرف على هؤلاء الأشخاص، يمكنك أن تقول: هذا هو الدكتور عبد الرازق حسن، وهذا هو الدكتور محمد مندور وهكذا... إنها سطحية جداً، وأدب رديء جداً. وأظن أن نجيب محفوظ يجتاز الآن أزمة روحية، وخطأه أنه يريد أن يستمر في الكتابة، بينما في بعض الأحيان من المهم أن يمتنع الإنسان عن الكتابة حتى يتجاوز الأزمة وبذا يمكنه أن يراها عن بعد».

أحسب أنَّ الدكتور عبد الرازق حسن يحتاج إلى تعريف مختصر به، إذ أنَّه ليس مثل محمد مندور علماً شهيراً. عبد الرازق حسن مستشار وخبير مالي واقتصادي ماركسي. زامله لويس عوض في السجن في اعتقالات مارس (آذار) 1959 التي تعرض لها شيوعيون مصريون كثر. وحين تعرَّض لهذا الاعتقال كان مستشاراً اقتصادياً برئاسة الجمهورية. وفي الخمسينات أيضاً عمل مديراً عاماً للبنك الصناعي في القاهرة. بعد خروجه من السجن عمل مديراً لشركة مصر للطباعة. ولخبرته المالية عينه ثروت عكاشة وزير الثقافة والإرشاد القومي رئيس مجلس إدارة شركة القاهرة للإنتاج السينمائي.

ومن المفيد أن يرجعَ القارئ إلى حكاية رواها عنه محمود السعدني في كتابه «الطريق إلى زمش» مع العريف غطاس والضابط العيسوي. وهي حكاية تقطر إهانة ومهانة ألحقتهما به يدا ورجلا العريف والضابط السفيهين. في كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» لرجاء النقاش، قدم نجيب محفوظ، رئيسه حين كان في منصب رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما، لمحة عن شخصيته، وهي أنه عصبي في سلوكه وانفعالاته حادة وسريع الشجار مع الآخرين الذين يكونون عادة من المسؤولين الكبار ومن نجوم ونجمات السينما. وللحديث بقية.