رغم أنه يفتك بالعقول والقلوب والأرواح.. إلا أنه سلاح مباح.. وغير محرّم دولياً تتناثر شظاياه لتدمر المعنويات وتشتت الأفكار.. تنفجر قنابله لتحدث ضجيجاً يصمّ الآذان وتشتعل في الصدور نيران يغشى دخانها الحواس ويعمي الأبصار.. وتستعر حرائقه التي تأكل الحقيقة. تتكاثر لتتحول إلى أداة تدمير تدعمها في الأذى ارتدادات تسمى إشاعات.. وكلها تصب في مصلحة مُطلقها.. وهو غالباً ما يكون مهزوماً يبحث عن نصر موهوم، أو خائفاً يبحث عن أمانِه في زعزعة قوة يهاب انتصارها.

نتوقف اليوم عند هذا السلاح وقد انتشر في المدة الأخيرة بشكل يستحق أن ندرسه بتمعن لنتعلم ونفهم عن هذا الزمن المُتخم بوسائل الإعلام. المتلقون يتأرجحون بين مُصدق مُغمض العينين، ومُشكك ينبش وراء كل كلمة، وهذه الفئة القادرة على حماية حواسها وعقلها من هذا الإعلام المفخخ بالألغام (وإن كانت قليلة) تبقى موجودة تجاهد لحماية أفكارها أمام هذا الزخم الهائل من الإشاعات التي اتخذت من منصات التواصل الاجتماعي منافذ لها وتباهت باسمها الجديد (هاشتاغ).. تقيس مصداقيتها الكاذبة بعدد المتابعين.. كان زمن العابثين..

عُرف هذا الإعلام المُضلِّل منذ أول التاريخ وبلغ ذروته في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فأصبح مع ما يثيره من شائعات عِلماً قائماً بذاته يتم تدريسه في الكليات الجامعية، الإعلامية والأمنية على حد سواء. واجتهد علماء النفس والاجتماع في وضع الأطر العلمية المُشكِلة لهذا العلم. وبحسب الدراسات التي أعدت قسّمت الشائعات إلى خمسة عناصر مترابطة: أولها الإعلام المُضلِّل الذي غالباً ما يكون «المصدر» وهو مروجها والمستفيد الأول، وثانيها «المضمون» أي الرسالة.. وثالثها «القناة» أو الطريقة التي ستروج بها (المشافَهة ووسائل التواصل الاجتماعي). أما العنصر الرابع فهو«المستهدف» وهو الذي صُمِم الإعلام المُضلِل له واستخدمت الشائعات لتصويب أكبر أذى ممكن ضده.. والعنصر الخامس هو«الارتداد» ومدى تفاعل الأطراف معه..

الإعلام المُضلِّل يهدف لنشر الإشاعات بين طرفين، طرف يرفع معنوياته وطرف يهدمها. هذه الدراسة وإن خلصت إلى نتيجة أن هذا الإعلام غير أخلاقي. لكنها أكدت أن استعماله في الحروب متاح.. وما على المتلقي سوى البحث والتنقيب عن مصدر موثوق، هذا إذا سمحت له آلة الإعلام المُسخّرة لخدمة هذا المشروع، حيث تعمل بجد لتغلق الأبواب والنوافذ أمام كل باحث يفتش عن الحقيقة.

هنا لا بد من التنويه بأن هناك فرقاً كبيراً بين الإعلام الكاذب والإعلام المُضلِّل.. الأول حبله قصير وأقل في التأثير، إذ يسهل التحقق من مصدره وكشف سطحيته وزيفه. لكن الإعلام المُضلِّل حبله طويل، متقن الصنع حيث يأخذ حقيقة ما، ويحولها بدهاء محكم إلى اتجاه آخر يتناسب مع مصالحه، هو تماماً كمن يمزج السم بالعسل بحيث لا ينتبه الطرف المُستهدف ويذعن مصدقاً من دون أن يعي أنه وقع في فخ الألغام المؤذية.

هو سلاح الحرب النفسية التي ترصد لها ميزانية خاصة وخطط مسبقة تأخذ في تقديرها كافة الاحتمالات. ومنها كمثال كمّ أفوه بعض المنظمات التي يمكن أن تتدخل كمنظمات حقوق الإنسان أو غيرها.. وحشد التأييد المسبق من معظم الحكومات العالمية لتمرير التضليل على الشعوب بشكل يُغلق أمامهم كل الأبواب فلا تسمح إلا لمروّج التضليل باختراقها، ولدينا من هذه الممارسات غير الأخلاقية أمثلة كثيرة.

والسبب كما نعلم هو تبعية بعض الحكومات لسلطة شركات تدعم هذا الإعلام المُضلِّل. الخلاصة الإعلام المُضلِّل يحتاج إلى تمويل ودعم من شركات ذات سلطة لتمرير التضليل وهدم المعنويات التي قد تطول في بعض صورها تغيير المسارات العسكرية وتحطيم إرادة الصمود لدى الجنود والشعب على السواء.

هي أسلحة الدهاء التي غالباً ما تلعب على المشاعر العاطفية، وكما قال الفيلسوف الفرنسي (جوستاف لوبون) في كتابه الشهير «الجماهير تحركها العاطفة ولا تؤمن بالمنطق» كان هذا أهم أسلوب يتبعه إعلام التضليل، اللعب على العاطفة. أما المُعلّم الأول لهذا الإعلام المزيف فهو وزير الدعاية لدى هتلر (جوزيف غوبلز) وهو أشهر من استخدم الإعلام المُضلِّل كسلاح، ووظف الكذب المُمَنهَج في تضليل وعي الشعوب وهو صاحب شعار: «اكذب واكذب حتى يصدقك الناس». رغم أنه مات واندثرت نازيته، إلا أن مدرسته مازالت قائمة وربما كانت هي الدرس الذي لم ينسه أعداؤه وهم اليوم يتباهون في أنهم طوروه وسخّروا الإعلام العالمي كله ليسير كما تشتهي سفن إعلامهم الكاذب.. يزيفون الحقيقة ليصبح القاتل هو الضحية والمحتل هو المدافع عن أرضه..

لكن اليوم انقلب السحر على الساحر.. و(الهاشتاغ) على مُطلِقه.. فتحت مواقع التواصل للمظلوم نافذة منها رفع للعالم صور أطفاله النازفة، وصور بيوته المهدمة، وروى حكاية عمرها خمسة وسبعون عاماً من سجن كبير اسمه التضليل..

هنا لم تعد تفلح قنابل الإشاعات الكاذبة.. قديماً قال الكاتب الأمريكي (هربرت شيللر) في كتابه «المتلاعبون بالعقول»: «أعطني إعلاماً بلا ضمير أعطِك شعباً بلا وعي».. لكن منصات التواصل خلقت إعلاماً جديداً وشعوباً عالمية تتظاهر دفاعاً عن الضمير وعن الحرية.. دفاعاً عن المصداقية. شعوب واعية تقول: «سلاحكم.. قديم وفاقد الصلاحية»..