نحو رمادية الرؤى، وسرابية الأماكن، وعتمة القرار. ما زال الإنسان يركض خلف الزمن.. والزمن أسرع منه يسبقه نحو متاهات بلا حدود.. هكذا هي المساحة بين المفروض والواقع والتي تثير في داخلنا كثير الشكاية، وزحام التذمر، وشيئا من الضجر. أليس مفروضا أن تكون صادقا في واقع كاذب، وأمينا في واقع خائن، ومحافظا في واقع غير محافظ، ومحبا في واقع كاره؟ هكذا هي المعادلة ودوما هناك فرق بين الواقع والمفترض.

في هذا الزمن المغتص بالترنح الافتراضي هل توقف عقلك عن التفكير .. الكل يشتكي هذا الواقع بما يجده في ذاته مع أنه قد ينغمس فيه بسهولة، وينساق خلف التبعات بسلاسة ملحوظة.

الواقع الفعلي يضغط على رؤيتنا القريبة ويسحبنا إلى متاهات الافتراض بشكل ممزوج بالأهواء، والرغبات الخشنة هذا يصطدم بالواقع المفروض الذي هو أساس أفعالنا، وأن حريتنا ومجاوزة ظروفنا هي ضد هذا الواقع

هل المشهد نستوعبه بكل تفاصيله، وندرك حتمية المآلات التي نبدأ في دروبها.. هل توقفت عقولنا عن التفكير، وقلوبنا عن التدبير.

أشك اليوم أن الكثير يملك إرادة حرة تتجلى فيها ذاته المهزومة، وتجده منزوع الخوف من المجهول، ومحطما لقيود التبعية الطاغية التي تجره إلى بقع الغرابات ومع أن النور على أشده يزداد الظلام انتشارا.

تتأمل غالبا وترى أن المعايير منقلبة في واقع يظنون أنه متساو ومتوازن فقلما تجد من يصطنع خطابا يعرف مقتضياته، فيأتي خطابه الحياتي أمام ذاته وبصيرته وبعضا من حضوره مترهلا مشتتا يعاني تضاربا بين منطوقه ومنطقه، ذلك الاهتزاز لم يتمثل في تبنّي وعينا بالمعاني السامية حيث لا نتبنّاها على نحو اختزالي بل اسقطناها.

البعض قد يسعى نحو القيم المطلوبة، كقيمة الرفاهية، الأمن، الحرية، وهم لا يدركون أن هذا السعي في النهاية مشروط بقدراتهم من جهة، وتحدياتهم المفروضة عليهم من جهة أخرى ونشاط عقولهم بالتفكير.. فهذه القدرات تنظم قائمة الأولويات، وتعين على فهم الواقع في شموله، واحترام الوقائع والمتغيرات في تفرّدها. لكن توقفت عقولنا عن التفكير.

اليوم يترك البعض عقله ليفكر بعقل غيره، ويقوده باتجاه قناعات خاصة، ويجعل الغير معيارا في سلوكه ليس لديه أدنى استعداد أن يواجه واقعه بإمكاناته فيهرب إلى مساحة من التعاطي الهزيل مع تراتيب قادمة يكاد لا ينجو منها ككيان مستقبل.

أحيانا يتكثر سماعك لمصطلح ومشتقات، الصعوبة، كل شيء أصبح صعبًا لأن خطاب العقل متعطل بتوقف التفكير فكان الاندلاق السريع نحو الحديث عن النتائج فقط ولم يبال أحد بالمسببات فقناعاته الضئيلة سارت به إلى فكر مسدود بالفراغ الذهني، وغيره يفكر عنه ويمنحه الخلاصة فلا يكلف نفسه بالتفكير عفوًا التجريب.

لدينا إشكالية كبيرة وهي أن البعض لا يلمس بجد أن هناك فروقا حقيقية بينه وبين الأخر حتى لو ظن أنه متساوي المعطيات والسمات.. هنا خلاصة ومنفعة التجربة التي يتجاهلها ذاك بنيت على نتيجة الآخر وهذا الحكم هو أكبر مسببات توقف التفكير، كما أن البعض يختار سلوكه قبل أن يعرفه ويشعر به. هذا ما جعل السقوط الفكري منتشرا.

ويبقى القول: ما نراه حولنا قد يكون واقعا مفروضا علينا، ولكنه ليس مفروضا أن يكون واقعا لكن هكذا هي الحياة، وهذه الحقيقة الموجودة بيننا فالمنطق الحقيقي في حراك الذات البشرية يرتكز على ثلاثة أوعية معتبرة تبدأ بالمعرفة التي يتلقاها العقل ثم بالمشاعر التي يتلقفها قلبك وتحركه ثم حين تترسب تلك المعرفة والمشاعر يتشكل السلوك.. ولكن اليوم نحو تقوم ونتبع السلوك دون أن نمر بمراحله المسبقة ترتيبا.