العلم والمعرفة المتطورة في شتى العلوم ليست الطريق الوحيد للوصول لمعرفة فوقية خارقة تتحدى حواجز وحدود الطبيعة، وما نعلم عنه وما نعتقد أننا نعلم عنه وما نتوقعه قد يقع في دائرة الجهل المبرمج وأحادية الرؤية والوقوع في أسر الحواس الخمس التقليدية: البصر والشم والسمع والتذوق واللمس، كونها وسائلنا الأهم للتعرف على العالم من حولنا والتفاعل كما تحدد أطر النظام الذي يحيط بنا.
والشيء المشترك بين الحواس أنّ معالجتها تتم عبر الدماغ، وفي الواقع كل ما نراه ونسمعه ونشعر به ونشمًّه ونتذوقه تدركه أدمغتنا، وهي المخوّلة بترجمة الجزيئات الدقيقة غير المرئية المحمولة جواً من رائحة الطعام بجوارنا، كما تحوّل موجات الضغط أو الاهتزازات إلى صوت الرعد الذي نسمعه، كما يمكن لأدمغتنا أيضاً أن تنسج جزء الضوء المرئي من الإشعاع الكهرومغناطيسي على سطح الجبل أو مشاهدة التوهج على وجه الآخرين.
ويمكن لأدمغتنا التعرّف على جزء الأشعة تحت الحمراء من نفس الإشعاع الكهرومغناطيسي، مثل الشعور بالدفء لدى جلوسنا على مقربة من مدفأة مضاءة، وهو ما يجعل الدماغ في غاية التعقيد، والحاسة الواحدة لها عدة أوجه، m تشوبها العديد من الاختلافات التي لم نكتشف أسرارها بعد.

وقد يفاجئك أن تعلم أن لدينا سبع حواس وربما ثماني وربما أربعة عشر وربما عشرين في الحد الأدنى! وحواس أخرى سرية يمتلكها البشر وإن كانوا لا يعلمون أنهم يمتلكونها، وماذا عن الحس المواكب أو المركب، وهو عندما تمتزج حاستان معاً لخلق «إحساس تركيبي» فريد، مثل السمع الملّون حيث تصدر أصوات معينة الألوان، وكيف تكون التجربة متأصلة في الفرد لدرجة أن الكثيرين الذين يتمتعون بذلك لا يدركون لفترة طويلة أن الآخرين لا يرون العالم بنفس الطريقة.

تعيش جميع المخلوقات وليس البشر فقط في ما يسمى بـ«الفقاعة الحسية» الخاصة بهم والجزء المحدّد للغاية من الواقع الذي يكون حاسماً لبقائهم ورفاهيتهم. ولا أعتقد أنه يوجد شخصان متطابقان في إحساسهم بالعالم من حولهم، وإنْ كان العلم لم يصل بعد لتلك الحقيقة وهذه الأمور تنطبق على كل مناحي الحياة ونظرتنا كأفراد ومجتمعات ودول للأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..الخ.
ولك فقط أن تتخيّل أنك تشارك في غرفة مشتركة المساحة مع فيل وأفعى، وكيف يمكن أن تكونوا جميعاً في نفس المساحة المادية ولكن سيكون لدى كل منكم تجارب مختلفة جذرياً في ذلك الحيز الصغير. ستكون على سبيل المثال الأفعى ذات الأجراس قادرة على استشعار حرارة جسم الحيوانات من حولها، ويمكن للفيل أن يصدر أصواتاً منخفضة بموجات فوق الصوتية لا تستطيع المخلوقات الأخرى سماعها، وأن تشمّ أنت كإنسان الكثير من الرائحة وتشاهد الكثير من الألوان التي لا تستطع الحيوانات الأخرى أن تعيش تجربتها، ولذا كلاً منا محاصر في فقاعته الحسية وينظر منها إلى الواقع الخاص به إن صح التعبير، والمذهل حقاً هو أن كلاً من تلك الكائنات الحية في تلك الغرفة بما في ذلك نحن البشر يعتقد أنه يحصل على الصورة الكاملة لماهية الواقع.

من جهة أخرى، هناك الإيمان والشعور بالارتباط بما هو غير ملموس وليس له وجود مدرك بالحواس في العالم المادي ولا يمكن التحقق منه، وقوة ذلك الإحساس الذي لا يشعر به غير صاحبه ويتحكم بحياته ومخرجاتها.

وهناك كذلك الحواس الكيميائية مثل الخوف والفرح والجوع وغيرها التي تصدر من داخل الجسد لتخبرنا بأننا في وضع ما، مثل ما يحدث للأذن عند ارتفاع الطائرة وقدرتنا على فهم شعور الآخرين والاستجابة بشكل مناسب والوعي بالحالة، ومعرفتنا بالتهديدات أو الفرص الموجودة في محيطنا، والإحساس الزمني وإحساسنا بالفترات الزمنية ومرور الوقت، والحدس لاتخاذ القرارات دون أن نعرف دائماً كيف وصلنا إلى هناك، والحديث عن الحاسة السادسة والإحساس الذي يعرفه ويتنبأ به الشخص الذي يمر بالتجربة فقط، والسؤال هنا: هل يمكننا اختراق عقولنا لاكتساب حواس جديدة وأن تعجّل التكنولوجيا من إمكانية تجربة العالم بطرق جديدة؟!
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات