عندما منعت الدول العربية تصدير النفط للبلدان الداعمة للكيان الإسرائيلي عام 1973، لوحظ أن شركة تويوتا اليابانية لم تتأثر بالأزمة الأكبر في تاريخ بيع النفط. فقد ارتفع سعر البرميل من 24 إلى 66 دولاراً ثم لاحقاً إلى 77 دولاراً، مما سبب هزة عنيفة لاقتصاديات العالم وأسواق المال. والمفارقة أنه في غضون ذلك كان منافسو الشركة «يتشبثون في البقاء» بدائرة المنافسة. وبعد تعمق الغربيين في تجربة تويوتا، وجدوا أنها تطبق منهجية «القضاء على الهدر» حتى تصبح المنظمة في غاية الرشاقة.
هذا القوام الرشيق مكن «تويوتا» لاحقاً من اختراق الأمريكيين في عقر دارهم حيث حققت مبيعات في السوق الأمريكية تجاوزت كبريات الشركات الأمريكية! بفضل نظام تويوتا الإنتاجي TPS.
ويعود هذا المسمى إلى عام 1990، عندما تفرغ باحثان من معهد «MIT» الشهير في بوسطن لمقارنة نظام «تويوتا» الإنتاجي ونظام إنتاج الكم الأمريكي «mass production» الذي ابتكره هنري فورد مؤسس شركة السيارات، والذي اقتفى أثره معظم شركات السيارات العالمية لعقود طويلة. ثم تبين أن اليابانيين ينجحون في «تصميم، وتطوير، وإنتاج، وتوزيع، السيارات بنصف الاستثمارات والجهود البشرية والوقت المبذول فضلاً عن المباني والمكائن والمواد الأولية، مقارنة بالشركات الأمريكية» التي لا تعير اهتماماً يذكر للهدر في الموارد والوقت والجهد. هنا جاءت كلمة «لين» Lean أو الرشاقة الإدارية وهي مصطلح أطلقه الباحثون الأمريكيون على نظام «تويوتا» الإنتاجي «TPS»، ويقصد به إزالة الترهلات والدهون أو الشحوم الزائدة من الجسم. فقد لاحظ الأمريكيون أن المصنعين اليابانيين كانوا يزيلون كل ما هو زائد ولا يضيف قيمة للمنتجات أو الخدمات منذ لحظة استلام طلب العميل. وهي ما يطلق عليها بالنفايات «waste» أو الهدر. وقد حدد نظام «تويوتا» الإنتاجي تعريفها بدقة، فلا مجال للاجتهادات الشخصية.
وتنبع فكرة التحسين المستمر بالتخلص مما ليس له فائدة حقيقية، من فكرة الحرفي القديم، الذي يفعل ذلك بصورة تلقائية، ليحسن من جودة نصل السيف، أو الدروع. وكذلك يفعل النجار، والحداد، والخزاف، والصائغ، والحائك، والرسام وغيرهم. فالتحسين منذ الأزل كان رحلة مستمرة، وما فعله اليابانيون أنهم أضافوه وعرفوه في نظامهم الإنتاجي، فصارت منتجاتهم ليست رشيقة فحسب، بل دخلت إلى آفاق غير مسبوقة من الجودة.
ما سبق جاء في كتاب رائع أهدتني إياه الأميرة دليل بنت سعود بن عبدالعزيز آل سعود صاحبة دار جواهر التراث للنشر، بعنوان «التفكير الرشيق» للمؤلفين حسين الوطبان ونورا الوطبان. وهو من أجمل الكتب الإدارية في فنه من حيث رشاقة أسلوبه وعمق معلوماته.
حيث تناولا فيه أيضاً محاولات «تويوتا» القديمة التي تعود إلى تاريخ 1930 عبر شركة تويودا للنسيج الآلي التي أسسها ساكيشي تويودا، والذي يعد أول مخترع لنول النسيج التلقائي الذي مكن الآلة لأول مرة في التاريخ من التوقف عن العمل ذاتياً عند وقوع مشكلة في جودة العملية الإنتاجية مثل انقطاع الخيط أو إلتفافه. وبهذا قفزت دقة الإنتاجية في صناعة النسيج إلى شهرة كبيرة وحصدت جوائز عالمية عدة.
وما يسوقه المتحدثون الأمريكيون «الملهمون» حالياً من ترديد سؤال «لماذا» خمس مرات «5Why» للوصول إلى جذر المشكلة، هو في الواقع يعود إلى تويودا الذي استخدمه بالتغلغل في صلب المشكلة، حتى يعرف كيف يحلها عبر معرفة مكمن الخلل.
وكانت المفارقة أنه في مطلع تأسيس شركة «تويوتا» عام 1935م كانت شركة «فورد وجنرال موتورز» الأمريكيتين تستحوذان على السوق اليابانية المحلية والأسواق العالمية. فلم يكن في وسع «تويوتا» مجاراتهما في ما برع الأمريكان فيه آنذاك وهو «إنتاج الكم» mass production أي الاستفادة من ثمرة غزارة الإنتاج في تقليل التكلفة، حيث «كان الإنتاج الياباني السنوي لسيارات «تويوتا» يعادل حجم ثلاثة أيام فقط مما تنتجه شركة فورد سنوياً». ثم عكفت على دراسة جهود التصنيع حول العالم فعدلت مسارها عبر إعادة النظر في إنتاج الكم الذي كان يصحبه هدر كبير للموارد لم يكن ينتبه إليه المنتجون حول العالم.
باختصار «تويوتا» طبقت من دون أن تعلم الحديث النبوي: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه».
التعليقات