بدأت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تتخذ خطوات لما يمكن تسميته "ميني انقلاب" على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مواقف متدرجة ومبطنة من دون صخب علني في سنة الانتخابات الرئاسية الأميركية. هذا الموقف المتأخّر يأتي نتيجة عوامل متعددة ومتراكمة جعلت وقف إطلاق النار في غزة أولوية أميركية.

توسّع التوتر الاقليمي أصبح يمسّ بالأمن القومي الأميركي والاقتصاد العالمي، وهناك امتعاض في القاعدة الليبرالية (لا سيما الشباب) من موقف بايدن حيال حرب غزة، وينعكس هذا الأمر في استطلاعات الرأي في الولايات المتأرجحة انتخابياً مثل ميشيغن. وتحدّي نتنياهو لبايدن ادّى إلى أزمة داخل الإدارة الاميركية، حيث فشلت كل المحاولات الدبلوماسية لوقف امتداد النزاع. وبالتالي كان هناك قرار باتخاذ هذه الإجراءات التي تواكب مفاوضات الهدنة من دون الدخول في مواجهة دبلوماسية علنية مع نتنياهو.

الخطوة الاميركية الأولى كانت استقبال غريم نتنياهو في الحكومة بيني غانتس في البيت الابيض، وهي دعوة لم يتلقّاها نتنياهو حتى الآن منذ تسلّم بايدن الرئاسة رسمياً. هذا على الرغم من أنّ الفوارق محدودة بين مواقف غانتس ونتنياهو العلنية من حرب غزة، وبالتالي المشكلة الأميركية هي حول اسلوب وليس بالضرورة من مضمون المقاربة الاسرائيلية في غزة.

ثانياً، كانت خطوة إرسال 1000 جندي اميركي لبناء الميناء البحري في غزة لإيصال المساعدات الى الفلسطينيين، وبالتالي كسر الحصار الإسرائيلي على غزة بطريقة لا يمكن لنتنياهو وقفها او تحدّيها، بل قبول أمر واقع ميناء فرضته واشنطن، وسيكون اول منفذ للفلسطينيين خارج السيطرة الإسرائيلية.

ثالثاً، كان الموقف اللافت من زعيم الاغلبية الديموقراطية السيناتور تشاك شومر الذي قال مؤخّراً عن نتنياهو: "لقد ضلّ طريقه من خلال السماح لبقائه السياسي بأن يكون له الأسبقية على المصالح الفضلى لإسرائيل". وأضاف: "لا يمكن لإسرائيل أن تبقى على قيد الحياة إذا أصبحت منبوذة"، مع التلميح الى ضرورة اجراء انتخابات مبكرة في اسرائيل.

الأهمية في تصريح شومر الذي أيّده بايدن انّه يأتي من السيناتور الديموقراطي الوحيد الذي لم ينتقد خطاب نتنياهو امام الكونغرس في آذار (مارس) 2015، الذي هاجم فيه الاتفاق النووي مع إيران متجاهلاً الرئيس السابق باراك اوباما. وعلى الرغم من هذا الموقف المستجد من نتنياهو، يضغط شومر بشدة لإقرار حزمة مساعدات خارجية لإسرائيل في الكونغرس تصل الى حوالى 14 مليار دولار.

رابعاً، بدأت إدارة بايدن في تأخير بعض المساعدات العسكرية، لا سيما وأنّ اسرائيل تطالب بالذخائر الموجّهة بدقّة والقنابل الخارقة للتحصينات. لكن عملياً، لم يتردّد بايدن في إمداد اسرائيل بالذخائر منذ 7 تشرين الاول (أكتوبر) الماضي، بل بحسب "الواشنطن بوست" هناك ما يعادل مساعدات عسكرية أميركية لإسرائيل كل 36 ساعة خلال حرب غزة.

الفارق أنّ بايدن يقوم بذلك الأمر سراً على عكس الترويج الإعلامي لمساعدات اوكرانيا. المساعدات العسكرية لإسرائيل خلال الاشهر الأخيرة خرجت من مخزون الجيش الأميركي، ويتمّ إقرارها كمنح من وزارة الخارجية. البيت الأبيض تجاوز الكونغرس مرتين لإيصال أسلحة طارئة لإسرائيل، وهو يواصل المساعدات سراً بوتيرة اكبر، مستفيداً من المادة 36 من قانون مراقبة تصدير الأسلحة الذي يطلب من الرئيس إخطار الكونغرس فقط عندما تتجاوز مبيعات الأسلحة المقترحة قيمة معينة.

وبموجب مذكرة الأمن القومي التي وقّعها بايدن الشهر الماضي، أمام حكومة نتنياهو مهلة حتى 25 آذار (مارس) لتزويد الولايات المتحدة بضمانات مكتوبة بأنّها تتبع القانون الدولي عند استخدام هذه الاسلحة الهجومية ضدّ المدنيين، والاّ قد تجد اسرائيل نفسها مثل أوكرانيا في غضون اسابيع، أي بحاجة ماسّة الى ذخيرة لاستكمال الحرب بفعالية.

في المحصلة، هل تؤثر هذه الخطوات الأميركية على حسابات نتنياهو؟ مشكلة بايدن مع نتنياهو تتركّز حول حماية المدنيين في غزة واتفاق الهدنة ومسار حل الدولتين. نتنياهو بدأ يبدي مرونة شكلية حول إعلان وقف النار فقط، بحيث عاد الوفد الإسرائيلي الى مصر لاستكمال التفاوض، ثم صرّح نتنياهو بأنّ الحرب ستنتهي في غضون شهرين، أي أنّه وضع للمرّة الأولى سقفاً زمنياً يتجاوز السقف الزمني الذي وضعه البيت الابيض.

اذاً، لم يتخذ بايدن حتى الآن خطوة جدّية في الضغط على نتنياهو الذي تعتمد كل ترسانته العسكرية على الأميركيين. فقد صرّح الرئيس الاميركي في البداية، أنّ دخول القوات الإسرائيلية الى رفح قد يكون خطاً أحمرَ قبل التراجع سريعاً عن هذا التصريح بالقول: "لن أترك إسرائيل أبداً... لذلك ليس هناك خط أحمر سأقطع فيه كل الأسلحة حتى لا يكون لديهم القبة الحديدية لحمايتهم".

يقول البيت الابيض إنّ لا فيتو اميركياً على عملية رفح مع الدعوة لضرورة حماية المدنيين، لكن ميدانياً ليس هناك عدد كافٍ من القوات الاسرائيلية لدخول رفح، والعملية تمّ الإعلان عنها ثلاث مرات حتى الآن مع وقف التنفيذ، وبالتالي هذا الإعلان المتكرّر هو ابتزاز فارغ المضمون يواكب التفاوض لشراء الوقت في استكمال العمليات العسكرية في غزة.

إدارة بايدن تقول إنّها تريد هزيمة "حماس" وحماية المدنيين الفلسطينيين، وبالتالي التوتر المفترض مع إسرائيل هو حول كيفية القيام بالأمرين معاً. يقول الإعلام الاميركي لقد انتهت استراتيجية "العناق في العلن والدفع في السرّ" في تعامل أميركا مع سياسة اسرائيل في غزة، لكن الاستراتيجية الجديدة لا ترقى لتكون فعّالة إذا لم يفهم نتنياهو بشكل واضح أنّ المساعدات الأميركية ليست مجانية وهي مشروطة بتجاوبه مع مطالب واشنطن.