أعلنت اللجنة الانتخابية الروسية الاثنين الماضي أنّ فلاديمير بوتين حقّق فوزاً «قياسياً» في الانتخابات التي اختتمت الأحد، معتبرة ذلك دليلاً على أن البلاد موحدة خلف الرئيس الموجود في السلطة منذ نحو ربع قرن.

ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية «فرانس برس» عن رئيسة اللجنة الانتخابية إيلا بامفيلوفا أنّ بوتين نال حوالي 76 مليون صوت، وهو ما يمثّل 87.29 %، وأضافت إن «المشاركة سجلت نسبة قياسية غير مسبوقة قدرها 77.44 %، وهذا لم يحصل من قبل في تاريخ روسيا الجديدة.

وجاءت الانتخابات الرئاسية الروسية في سياق دولي وأوروبي يطغى عليه التوتّر الذي بلغ حدّ التلويح باستعمال السلاح النووي، ووصل هذا التوتّر إلى درجة خطيرة إثر تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنّه «لم تعد لبلاده خطوط حمراء في دعم أوكرانيا في حربها ضدّ روسيا»، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة في موسكو، ما دفع الرئيس فلاديمير بوتين إلى التلويح بالنووي وجعل نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري ميدفيديف يعلن هو الآخر أن «لا خطوط حمراء لروسيا ضدّ فرنسا».

ورغم أنّ هذه التصريحات الفرنسية لا تلقى إجماعاً في صفوف حلفاء أوكرانيا، إذْ تعارضها بالخصوص كلّ من الولايات المتّحدة الأمريكية وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وحتّى بريطانيا، إلّا أنّها ألقت بظلالها على العلاقات الدولية وجعلت شبح الحرب يخيّم مجدّداً على أوروبا.

ويعتبر عديد الملاحظين أنّ أوروبا تشهد عملية «تعبئة مصطنعة لحرب لا مبرّر لها مطلقاً»، إذ إنّ «الخلاف الروسي الأوكراني لا يعدو أن يكون خلافاً حدودياً، لا يرقى بالضرورة إلى نزاع شامل أو يكون سبباً في حرب كونية جديدة»، مثلما أعلن ذلك الزعيم الفرنسي اليساري جون لوك ميلنشون.

هذه المخاوف والمعاني المحذرة من احتمال نشوب حرب كونية ثالثة عبّر عنها بوضوح تامّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال كلمة ألقاها أمام أنصاره مساء الأحد في الساحة الحمراء بمناسبة فوزه في الانتخابات، إذ أكّد «التمسّك بحقوق وأهداف بلده واستعداد روسيا لخوض الحرب من أجل ذلك، رغم أنّ الدفع باتجاه حرب عالمية ثالثة ليس من مصلحة أيّ طرف».

وما يبعث على الغرابة حقاً هو تلك المساعي الغربية المحمومة من أجل نزع أيّ شرعية عن الاستحقاق الانتخابي الروسي وهي مساع رافقت هذا الاستحقاق في كامل مراحله. ولا يبدو أنّ الغرب الليبرالي مستوعب لأسباب الفوز الساحق لفلاديمير بوتين في هذه الانتخابات وبالخصوص غاب عنه تفسير نسبة الإقبال التي فاقت 74 في المائة من مجمل المسجلين في القائمات الانتخابية.

ولا نرى أنّ الغرب الليبرالي فَهِمَ أنّه كلّما اشتدت حدّة العداء الغربي تجاه روسيا ورموزها، سَهُلَ على فلاديمير بوتين حشد الشعب الروسي وراءه على خلفية «الوحدة الوطنية الروسية المهدّدة».

ويذهب اعتقاد المراقبين إلى أنّ موجة التنديد بظروف وملابسات الانتخابات الروسية وبنتائجها، قد تُرضي الروس الذين اختاروا الموديل الغربي في تنظيم المجتمع والدولة، وهم قلّة قليلة، ولكنّ الغالبية العظمى من المواطنين الروس، حتّى أولئك الذين لا يتوافقون بالضرورة مع بوتين، يرون في ردّة الفعل الغربية حلقة أخرى من مسلسل محاولة القضاء على الهويّة الروسية.

من الواضح إذن أنّ الغرب الليبرالي يدفع باتجاه التشكيك في شرعية انتخاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على أساس «غياب منافس جدّي» له في هذه الانتخابات وفي ضوء ما يرونه من «غياب كلّي لقواعد المنافسة الديمقراطية»، من الواضح كذلك أنّ دولاً أخرى تنتمي لما أضحى يسمّى بـ «الجنوب الشامل» تعاملت مع الانتخابات الرئاسية الروسية على قاعدة احترام الشؤون الداخلية للدول، ولكنّ الأوضح أنّ الغرب الليبرالي يدفع بلا هوادة باتجاه الحرب، وهذا ديدنه منذ أزيد من 40 سنة، لأنّ العقيدة التي تحرّكه هي أنّ الحرب والعنف من الوسائل الموصلة لتحقيق الأهداف والسياسات.

وإنّ ما غاب عن الغرب الليبرالي هو أنّ العنف لم يحلّ مطلقاً أيّ إشكال أو نزاع، وهو ما يشرّع القول بأنّه يجب التقاط الفرصة من أجل تغليب وإعلاء الدبلوماسية، إنّ الإنسانية في حاجة ماسّة إلى تجذير ثقافة السلام ونبذ ثقافة الحرب إلى الأبد.