إذا كان من أمر يتفق عليه معظم الفرنسيين، أو مجملهم، في هذه المرحلة الداخلية المضطربة، فهو استغرابهم إقدام الرئيس إيمانويل ماكرون، على حل مجلس النواب فجأة غداة صعود اليمين الفرنسي المتشدد في انتخابات البرلمان الأوروبي. فلا شيء يبرِّر هذه الخضة الكبرى المتمثلة في الانتخابات النيابية الفرنسية المبكرة، على مرحلتين، خلال الأيام العشرة القادمة. فنتائج الاقتراع الأوروبي لم تكن لتؤثر في مصير الواقع الفرنسي، خصوصاً أن صعود اليمين المتشدد هنا وهناك في «القارة القديمة» لم يبدّل كثيراً في تكوين البرلمان الأوروبي، ولم يغيّر صورة المؤسسات الأوروبية المشتركة وتوجهاتها، التي بقيت على حالها. فما الحكمة من إثارة هذه الزوبعة الفرنسية الكبرى عشية ألعاب باريس الأولمبية، حيث ستكون «مدينة السين» محطّ أنظار العالم؟ ولماذا إثارتها في وضع اقتصادي وسياسي فرنسي صعب، وفي ظلّ تراجع نفوذ فرنسا في أفريقيا وسواها، وبينما تنذر الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على غزة بانعكاسات إقليمية ودولية بالغة الخطورة؟

حين تتعذر رؤية المنطق السياسي في قرارٍ ما، فلا بد من البحث عن دافعه النفسي. وأغلب الظن أن ماكرون اتَّخذَ قراراً ذاتياً بحتاً، في لحظة خيبة وغضب عميقين، راغباً في تحدي الناخبين الفرنسيين، على هذا النحو: إذا كنتم أعطيتم اليمين المتشدد في الانتخابات الأوروبية أكثر من ضعفي ما أعطيتم لائتلاف «نهضة» الملتئم حولي، فهل تجرؤون على فعل الشيء نفسه في انتخابات البرلمان الفرنسي وتسلمون البلاد لليمين المتشدد، الذي «سيقودكم إلى الخراب»؟ تلك هي الروحية الخفية لقرار ماكرون.

من المستغرب أيضاً ألا يدرك ماكرون خصوصية الشعب الفرنسي، الذي يفاجئ من زمان أوروبا والعالم بقدرة غير معهودة على التمرّد وقلب الأوضاع رأساً على عقب. هو شعب ثورة 1789 الكبرى الذي أسقط، للمرة الأولى في التاريخ النظام الدهري القديم برمّته، بملَكيّته المطلقة، وطبقاته المجتمعية الثلاث البالغة الصرامة، تحت راية الحرية والأخوة والمساواة... لكن بعد حين، وضع جانباً ثورته الجمهورية، ليسير وراء رجل واحد، نابوليون بونابرت، في حلم الإمبراطورية الفرنسية، مجتاحاً القارة الأوروبية وسط هتاف: «ليحيا الإمبراطور!»... ومسارات التمرّد الفرنسية كثيرة. أو أليس آخرها قبل سنوات بروز ماكرون نفسه الذي أذهل العالم بتشكيله حزبه الجديد الآتي مما يشبه العدم، فالتفّت حوله بين ليلة وضحاها غالبية الشعب الفرنسي وأوصلت صاحبه الشاب إلى قصر الإليزيه؟

والآن إلى أين؟ لا يبدو أن الرئيس ماكرون مدرك حقاً أن نجمه قد أفل، أو هو على أفول. وقد وصل به الأمر إلى تخويف الفرنسيين من «الحرب الأهلية» في حال اقترعوا للمتطرفين. وهو لا يدرك تماماً أن هذه «التحية» سيردّ عليها الناخبون قريباً بـ«أحسن منها». فالتوقعات واستطلاعات الرأي تشير إلى أن التجمّع اليميني المتشدد سيحوز نحو 35 في المائة من الأصوات، وتحالف اليسار (المتشدد والمعتدل معاً) على نحو 25 في المائة، والأحزاب الوسطية الأربعة التي يتألف منها تجمع «نهضة» الموالي لماكرون على نحو 20 في المائة، لا أكثر.

لكنَّ الانتخابات النيابية الوشيكة، أياً كانت نتائجها، ستُدخِل فرنسا في مرحلة من الاهتزاز والاضطراب الكبيرين. لقد أعلن التجمع اليميني المتشدد أنه لن يؤلّف الحكومة إن لم يفز بأكثرية مقاعد المجلس النيابي الجديد. ستكون له على الأرجح القوة النيابية الأهم، لكن هل يحوز أكثرية المقاعد؟ فإذا كان له ذلك ستواجه حكومته صعوبات جمَّة، في التعايش مع ماكرون، ومواجهة المعارضات العديدة، والتصادم مع «المجلس الدستوري»، ومع التحركات النقابية واليسارية المتطرفة العنيفة في الشارع. وإذا لم تكن لليمين المتشدد الأكثرية النيابية المطلقة، ستتألف على الأرجح حكومة وسطية من الماكرونيين واليمين الجمهوري المعتدل واليسار الاشتراكي المعتدل، والصعوبات التي ستواجهها ستكون كبيرة أيضاً.

لم يخطئ ماكرون كثيراً بالتلويح بـ«الحرب الأهلية»، وإن أراد منها التخويف والتهويل. فللمرة الأولى في تاريخ فرنسا الحديث، ثمة صدع عميق في المجتمع الفرنسي، وثمة هوَّة لا تُردَم بين «فرنسا الفرنسية» و«فرنسا الأممية»، بين فرنسا جان دارك وفرنسا تروتسكي الجديد. فالخطير في هذا الصدع أنه يتجاوز إلى حد بعيد الخلافات السياسية والاقتصادية والأمنية المعهودة، ليتحوّل صراعاً ثقافياً وحضارياً على الهوية الفرنسية نفسها، بين دعاة «فرنسا الفرنسية»، و«فرنسا المتعددة» الفاتحة أبوابها وروحها لملايين المهاجرين من مختلف أقطار الأرض وأعراقها.