ظلت جملة صديقي عالقة في ذهني، وصادف، في أمسية الملتقى الثقافي الماضية، أن أهداني الصديق العزيز الدكتور حامد الحمود كتاباً بعنوان «الإنسان والبحث عن المعنى.. معنى الحياة والعلاج بالمعنى»، الذي يسرد مؤلفه الدكتور فيكتور فرانكل Viktor Frankl– (1905–1997)، وهو طبيب أعصاب وطبيب نفسي نمساوي، سيرة حياته بنجاته من عذابات السجون والمعتقلات، التي عاش فيها فترة من حياته.
الدكتور فرانكل هو أحد مؤسسي مدرسة العلاج بالمعنى، التي تُعد مدرسة قائمة بذاتها في العلاج النفسي، وربما أهم ما يميّز هذا الكتاب «الصغير»، هو تقديم وجهة نظر مُخالفة وموازية للفكرة الرئيسية للعلاج النفسي المعروفة، والتي تنطلق من ذات المريض باعتبارها المركز، الذي ينطلق منه المعالج لمعالجته، بينما يُركّز ويعتمد مبدأ العلاج بالمعنى على أن الوجود الخارجي هو المركز، الذي يجب أن يتوجّه إليه أي معالج في رحلة علاجه مع مريضه النفسي: «إن الهدف الحقيقي للوجود الإنساني لا يمكن أن يوجد في ما يسمى بتحقيق الذات. فالوجود الإنساني هو بالضرورة سمو للذات، وتجاوز لها أكثر من أن يكون تحقيقاً للذات. وتحقيق الذات ليس هدفاً ممكناً على الإطلاق، وذلك لسبب بسيط، وهو أنه بقدر ما يسعى الإنسان إليه، بقدر ما يخفق في الوصول إليه.. فلا يجوز أن نعتبر العالم الخارجي كمجرد تعبير عن ذات الفرد، كما أنه لا يجوز أن نعتبر العالم كمجرد أداة، أو كوسيلة لغاية تحقيق الفرد لذاته، في كلتا الحالتين تتحول النظرة إلى العالم إلى انتقاص من قدر هذا العالم».
تعوّدت أن أضع خطوطاً تحت الجمل، التي تستوقفني وتعجبني في الكُتب التي أقرأ، ولذا قلّما عبرت صفحة من هذا الكتاب دون خطوط، فهو كنز ثمين، لمن يريد أن يعيد معنى حياته، وفق مدرسة مهمة تُنادي بأن المشاكل والصعاب جزءٌ أساسي من حياة الإنسان، وأنها وحدها هي من تنبّه الإنسان لقوته الداخلية، وتمنحه التحدي الأكبر لتجاوزها، وأن أي إنسان يضع نصب عينيه هدفاً مشروعاً يسعى ويطمح لتحقيقه، إنما تكتسب حياته معنى حقيقياً بحجم ذلك الهدف. وكلما كان ظرف الإنسان صعباً ومريراً وقاسياً، كان سعيه لتحقيق هدفه سعياً مشروعاً وسامياً، وهذا ما يعطي لحياته معنى، ويجعله يستيقظ كل يوم لإضافة خطوة جديدة على طريق تحقيق هدف حياته.
الكتاب، ومن واقع تجربة إنسانية مريرة لمؤلفه، يُفتّح وعي القارئ على حقائق حياتية غاية في الأهمية، وفي الوقت نفسه تبدو هذه الحقائق مُسالمة وهادئة، وربما غير مرئية. والكتاب في مبتغاه الأهم، يسعى إلى تنبيه القرّاء إلى كنوز أرواحهم الذاتية، وأن لا إنسان يشبه آخر، وان كل واحد منّا قادر على تجاوز ظرفه القاسي، متى ما جعل من تجاوز ذلك الظرف هدفاً يعيش من أجل تحقيقه.
يغوص الكتاب في مشاهد مليئة بالألم والمعاناة الإنسانية، مؤكِّداً ضرورة نبش الإنسان في ذاته ليقوّي من عزيمة نفسه، متشبِّثاً بحبل الأمل. فلا شيء يمنح الحياة معنى، إلا أن يمنح الإنسان معنى لحياته. وهو يرى في الحب وسيلة مهمة لوصول المحبوب إلى مكامن نفسه: «إن الشخص المُحِب إنما يمكّن الشخص المحبوب من تحقيق إمكاناته، بواسطة تبصيره ليكون على وعي بما يمكن أن يكون عليه، وبما ينبغي أن يصير عليه، وهو بذلك إنما يجعل مما كان كامناً من هذه الإمكانات حقيقة واقعة».
طالب الرفاعي
التعليقات