إيمانويل ماكرون لا ييأس. يشبه ذاك المقامر الذي يأتي إلى الكازينو مرتدياً "فوطة صحيّة"، حتى لا يضطر إلى ترك "آلة الحظ" المقتنع بأنّها ستلبي تطلعاته آجلاً أو عاجلاً، إلى "بيت الراحة"!

من تابع تفاصيل المناظرة التلفزيونية التي جمعت مساء الإثنين الماضي رئيس الحكومة غبريال آتال ورئيس حزب "التجمع الوطني" جوردان بارديلا وممثل "الجبهة الشعبية الجديدة" مانويل بومبار، يدرك أن ماكرون أصبح عبئاً شعبي

اً لا بد من تجنّبه.

على رغم هجوم بارديلا وبومبار المركّز على "الماكرونية"، لم يجد آتال، وهو من أقرب المقربين إلى الرئيس الفرنسي، حاجة إلى الدفاع عن "الإرث". ترك المهاجمين يأخذون راحتهم ونأى بنفسه عن الماكرونية، ليدافع حصراً عن الإجراءات التي اتخذها هو في الوزارات التي كان قد شغلها قبل تعيينه في التاسع من كانون الثاني (يناير) الماضي رئيساً للحكومة.

ولم يترك آتال ماكرون لمصيره عن عبث، فواضعو الإستراتيجية الانتخابية لحزب ماكرون وحلفائه، أوصوا بإبعاد الحملة الانتخابية عن رئيس الجمهورية، ليس حماية له، بل حرصاً على المرشحين من مغبة الانتقام من ماكرون بهم.

ولكن الرئيس الفرنسي الذي بكّر الانتخابات، بقرار منفرد اتخذه بعد هزيمته في الانتخابات الأوروبية، لا يستسيغ هذه المعادلة الدعائية. يصر على أن يكون في قلب الحدث، معتقداً، بتقييم شخصي أيضاً، أنّه لا يزال "الساحر" القادر على تغيير المسار المرسوم.

وضمن هذه القناعة بقدراته الخارقة، أخرج ماكرون من قبعته فكرة الحرب الأهلية كما سبق أن أخرج من المكان نفسه قرار حل الجمعية العمومية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، متجاوزاً حاجة فرنسا، في فترة الألعاب الأولمبية التي تبدأ في الرابع والعشرين من تموز (يوليو)، إلى استقرار حكومي، وإداري، وأمني، وتشريعي.

إيمانويل ماكرون مقتنع بأنّه قادر على إعادة التاريخ إلى اللحظة التي تناسبه. عندما وصل إلى رئاسة الجمهورية، استفاد من انقسام البلاد بين اليمين واليسار اللذين كانا يعانيان، بدورهما، أيضاً من انقسامات حادة. قدم نفسه على أنّه، من موقع وسطي، يمكن أن يكون الحل.

يومها، نجح في ذلك. كانت فرنسا في بداية سعيها إلى البحث عن بدائل للطبقة السياسية التقليدية التي عانت من اختفاء الرجال الذين صنعهم مجد ما بعد الحرب العالمية الثانية وإدارة "الحرب الباردة"!

لم ينتبه ماكرون إلى أنّه نتاج مسار تغييري انطلق في البلاد. ظنّ نفسه - ولا يزال - أنّه لم يركب الموجة، بل صنعها. لم يعرف أنه أجاد الرقص في العاصفة. توهم أنه هو صانع العواصف.

منذ ولايته الرئاسية الأولى، بدأت الأرض تهتز تحت قدميه. لولا جائحة كورونا، لم تكن ممكنة معرفة المدى الذي كان يمكن أن تذهب إليه حركة "السترات الصفر". ولايته الرئاسية الثانية، بدأت "عرجاء". انتصر في الانتخابات الرئاسية، ليس كخيار أكثري في البلاد، بل كمحاولة أخيرة من غالبية فرنسية للوقوف في وجه صعود "التجمع الوطني" المحسوب على اليمين المتطرّف، على رغم الماء الذي وضعه في نبيذها، على مدى السنوات، لا سيما منه إجراء مصالحة عميقة مع الحركة اليهودية.

ما أنقذ ماكرون من السقوط في الانتخابات الرئاسية، لم ينقذه لاحقاً في الانتخابات التشريعية، حيث خسر أغلبيته النيابية المطلقة، ولكنّه استطاع أن يمارس السلطة على قاعدة أنّ تشكيل أكثرية مطلقة ضده كان يحتاج إلى تحالف مستحيل بين "يسار راديكالي" يتزعمه جان لوك ميلانشون و"يمين راديكالي" تتزعمه مارين لوبن. الضربة التي لم يتحمّلها، كانت خسارته، وهو الذي يقدم نفسه زعيماً أوروبياً، في الانتخابات الأوروبية. تصرف مثل الولد الذي انتزعت منه دميته فأقدم على تحطيمها: حلّ الجمعية العمومية ودعا إلى انتخابات نيابية تبدأ جولتها الأولى الأحد المقبل وجولتها الثانية الأحد الذي يليه، على رغم أن عاصفة اليمين الراديكالي، في ضوء نتائج الانتخابات الأوروبية، تضاعف زخمها، الأمر الذي رد عليه "اليسار" الفرنسي، بتوحيد نفسه، بسرعة قياسية، من أجل أن يتمكن من المواجهة. لم يلتف الاعتدال اليساري حول ماكرون. لم يعد أحد يريد الماكرونية.

وهكذا أصبح تيّار ماكرون، ولكن متبرئاً من ماكرون، النسيب الهامشي في معركة كبيرة!

السيناريو الأسوأ الذي تطرحه الماكرونية لإيجاد مكان بارز لها في الانتخابات النيابية، لا آذان صاغية له إلّا في بيئة النخب المالية والاقتصادية المتمركزة في باريس وكبريات المدن. هذه الفئات تخاف على مكاسبها من الفوضى والاضطرابات وتظاهرات الشارع وإضرابات النقابات. غالبية الفرنسيين الآخرين باتت همومهم في مكان آخر: إما جيوبهم المفخوتة وإما ألوان بشرة الآخر وصيحاته الدينيّة!

وعلى رغم كل هذه الحقائق، لا أحد يمكنه أن يقنع ماكرون بأنّه ليس نسخة متطورة جداً من "الذكاء الاصطناعي" بل هو، وإن كان ذكياً ومتكلّماً ومسرحياً ومثقفاً، رجل عادي لم يخلقه االله ويكسر القالب، كما بكّر اللبنانيون في معرفته، بعدما دخل عليهم "صانع معجزات" وخرج من بينهم "مشكلة إضافية".

وعليه، يتعاطى الفرنسيون مع كلام ماكرون عن حرب أهلية إذا لم ينصروا أغلبية نيابية، على أنّه مجرد محاولة ممّن ظنّ نفسه "جوبيتر" لإنقاذ عرش ضحّى من أجله بالغالي والثمين!