يوم الأحد المقبل ستكون فرنسا على موعد مع إحدى أخطر الانتخابات التشريعية في تاريخ الجمهورية الخامسة التي تأسست في العام 1985. ومصدر الخطورة في الانتخابات التي نتحدث عنها أنها قد تشهد انقلاباً في التركيبة السياسية الحاكمة في البلاد، فضلاً عن أنها قد تشهد مضاعفات لم يسبق أن شهدتها فرنسا في العقود الخمسة الأخيرة. ولعل أخطر ما يمكن أن يحدث بالمعنى السياسي الواسع أن تجنح السلطة نحو جناحي التطرف، اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف، في وقت يبدو أن الكتلة الوسطية في فرنسا آيلة إلى الضمور مع التراجع الحاد لشعبية الرئيس إيمانويل ماكرون وهو في السنة الثالثة من ولايته الرئاسية الثانية التي تنتهي في أيار (مايو).

حتى الآن تشير معظم استطلاعات الرأي إلى أن الجمعية الوطنية الفرنسية ستشهد بنهاية الانتخابات نشوء ثلاث كتل رئيسية سوف تتقاسمها وإن بنسب متفاوتة. ومن المقدر أن تأتي الكتلة اليمينية المتطرفة أولى بنسبة 35 في المئة من المقاعد. ويقود الكتلة "التجمع الوطني" الذي تتزعمه المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبن في حين يترأس الحملة الانتخابية جوردان بارديللا.

في المرتبة الثانية وفق استطلاعات الرأي الأخيرة فإن "الجبهة الشعبية الجديدة" التي تتكون من تحالف 4 أحزاب يسارية وبيئية قد تحصل على 30 في المئة من المقاعد، في حين من المتوقع أن تخسر الكتلة الوسطية "معاً" التي تدور في فلك الرئيس ماكرون معظم مقاعدها الحالية في الجمعية الوطنية، إذ قد لا تتجاوز نسبة 20 في المئة. وحتى الآن يبدو أن الكتلة الوسطية التي راهنت مع حل الرئيس ماكرون للبرلمان على إمكانية استقطابها قواعد اليسار المشتت، وقواعد وسط اليمين التقليدي، فشلت في رهانها مع نجاح اليسار رغم التنافر الكبير بين مكوناته الرئيسية في التكتل ضمن تحالف حول برنامج الحد الأدنى، فيما تشظى حزب وسط اليمين التقليدي "الجمهوريين" وانضم فريق منه الى حملة جوردان بارديللا، مما أضعف حظوظ حملة كتلة ماكرون الوسطية في تكرار الضربة التي حققها في انتخابات 2017 عندما نجح في تفجير اليسار واليمين التقليديين وانتزاع الرئاسة تحت راية تجمع وسطي حكم فرنسا في الولاية الأولى حتى 2022، ثم في الولاية الثانية حتى اليوم.

كل هذا سيتغير. ومعه ستتغير صورة فرنسا وهوية الحكم فيها في حال تحققت التوقعات بوصول "التجمع الوطني" الى الحكم محمولاً بأكثرية مطلقة أو نسبية، ومنها أن تنشأ صيغة "حكومة مساكنة" بين الرئيس المنتخب بالاقتراع الشعبي المباشر، على غرار ما شهدته فرنسا في عهدي الرئيسين فرانسوا ميتران وجاك شيراك، لكن مع فارق أن المساكنة في التجربتين الماضيتين كانتا بين قوى سياسية تقليدية، فيما هذه المرة من المحتمل جداً أن تكون المساكنة بين الرئيس ماكرون واليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن التي تكون وصلت الى السلطة للمرة الأولى منذ أن تأسس حزبها قبل خمسة عقود ونيف. في هذه الحالة ستكون المساكنة صعبة لا بل صدامية نظراً لأسلوب حزب لوبن في التخاطب السياسي والإعلامي والدعائي. والأهم أن البرنامج الذي تقدم به رئيس حملة "التجمع الوطني" جوردان بارديللا يتضمن اقتراحات ووعوداً انتخابية خلافية وصدامية ليس أقلها تعديل قانون منح الجنسية لمن يولدون على الأرض الفرنسية يعود إلى 1851، أو طرد اللاجئين غير الشرعيين من فرنسا، ويقدر أن عددهم يتراوح ما بين مليون ومليوني شخص. أضف إلى ذلك الحملات العنيفة أقله إعلامياً وسياسياً ضد مسلمي فرنسا تحت شعارات الهجرة غير الشرعية أو الإرهاب. كل هذه العناصر يمكن أن توفر أرضية خصبة لنزاعات كبيرة وعنيفة قد تشهدها الساحة السياسية الفرنسية.

ثمة سيناريو دراماتيكي آخر متداول في فرنسا ويقوم على احتمال ألا تحقق أي كتلة انتصاراً واضحاً، وأن يفشل تشكيل ائتلاف قادر أن تقوم على أساسه حكومة، مما قد يؤدي إلى أزمة حكم وفق مقولة "فرنسا التي لا تُحكم". وفي ظل عدم إمكانية قيام الرئيس بحل الجمعية الوطنية مرة أخرى قبل مرور عام، قد يصل الأمر إلى أزمة حكم على مستويي الرئاسة والحكومة، مما يفسر إلى حد بعيد كلام مارين لوبن أن الرئيس قد يضطر الى الاستقالة. وبالطبع أشار ماكرون الى انه سيبقى يمارس صلاحياته حتى العام 2027. لكن فرنسا تمر حقاً في مرحلة التقلبات الخطيرة التي يراقبها جيرانها الأوروبيون بقلق كبير نظراً للانعكاسات المباشرة التي ستتسبب بها نتائج الانتخابات وما بعدها. ومن أهم الملفات التي ستتأثر بنتائج الانتخابات وبأزمة الحكم اذا ما انفجرت، حرب أوكرانيا مع روسيا التي تخص الأمن الأوروبي الجماعي بمواجهة السياسة التوسعية الروسية التي ينتهجها الرئيس فلاديمير بوتين الساعي الى إعادة عقارب الزمن الأوروبي إلى مرحلة ما قبل سقوط جدار برلين عام 1989.

لقد كان قرار الرئيس ماكرون نوعاً من المقامرة بعهده، وبطبيعة اللعبة السياسية التقليدية الفرنسية. ومن المحتمل جداً أن تكون الانتخابات تاريخاً فاصلاً بين جمهورية خامسة 1.0 دامت من 1958 حتى اليوم، ومن جمهورية خامسة 2.0 ستبدأ من السابع من تموز (يوليو) المقبل!