اعترف رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر، بأن تغيير بلاده، بما في ذلك الاقتصاد، يتطلب الصبر والتصميم، وهذا أمر مفهوم تماماً، فقد ورث الرجل للتو، ورطة من العيار الثقيل، وعموماً، فإن حزبه الحاكم يحمل ملفات صعبة للغاية، أبرزها توفير فرص عمل جيدة، ونمو الإنتاجية، ومواجهة تدني متوسط الأجور السنوي بنحو 14 ألف دولار عن مستواه قبل الأزمة المالية في عام 2008، ولن تختفي هذه الكوارث ببساطة لمجرد تغيير الحكومة، ولهذا، من الواضح أن حزب العمال سوف يتبع نهجاً اقتصادياً مختلفاً عن حزب المحافظين، حيث ينوي زيادة الاستثمارات، وحماية حقوق العمال، وتوفير الأمن الاقتصادي، ولكن القادة الجدد، سيضطرون إلى تنفيذ قواعد مالية صارمة لخفض مستويات الديون الفلكية التي بلغت 2.7 تريليون جنيه إسترليني (3.4 تريليونات دولار)، وبما يعادل 100 % من الناتج المحلي الإجمالي.

لن تكون المهمة سهلة أبداً، ولكن إذا نفذ العماليون وعودهم الانتخابية فسوف تسير الأمور في الاتجاه الصحيح، وخاصة تلك الوعود المتعلقة بإطلاق المليارات التي تعزز الإنتاجية وتحسن مستويات المعيشة، وإنشاء مدن جديدة، وبناء أكثر من مليون منزل، وتأسيس صندوق وطني للاستثمار في الطاقة الخضراء، وبناء مصانع عملاقة لبطاريات السيارات الكهربائية، وإحياء صناعة الصلب المتعثرة، وإنشاء شركة طاقة حكومية للحد من الانكشاف على أسواق الطاقة الدولية، ومع ذلك، فإن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، سوف تجبر القيادة الجديدة على تفادي تطبيق الإصلاحات الجريئة لصالح خطة إدارة الأزمات.

بالعودة إلى نتيجة الانتخابات المذهلة، فإن توصيف ما حدث يشير إلى أنها موجة عارمة من الغضب، لم تغمر رئيس الوزراء المنتهية ولايته ريشي سوناك فحسب، بل غمرت أيضاً السنوات الـ14 من حكم المحافظين، وإذا كان من النادر في أي ديمقراطية أن ينتقل الحزب الحاكم بهذه السرعة من الانتصار إلى الكارثة، فإن الأسباب واضحة وهي: الخروج الفاشل والكارثي من الاتحاد الأوروبي، والتدهور الاجتماعي والاقتصادي الصارخ، والانحطاط المؤسسي، وتصرفات جونسون الفوضوية، وتجربة تروس المشؤومة والقصيرة الأمد مع الاقتصاد النيو ليبرالي، وليس غريباً أن يكون الشعور السائد على مدار العقد ونصف العقد الماضية، هو أن المملكة المتحدة في مراحلها الأخيرة بفعل تصاعد النزعة الانفصالية في إسكتلندا وويلز وأيرلندا، والتي هددت مراراً بتفكيك المملكة المتحدة، وقد عاقب الناخبون بقسوة، الجهة المسؤولة عن إفراز هذا المناخ السيئ للغاية.

على الجانب الآخر، يجد رئيس الوزراء كير ستارمر أن حزبه حصل على 413 مقعدًا، مما يجعله قريباً من تكرار انتصار توني بلير التاريخي في عام 1997، وهكذا، لم يعد حزب العمال إلى الحياة السياسية من جديد فحسب، وإنما صعد إلى قمة النشوة السياسية، فقد استعاد السيطرة على معظم الجدار الأحمر لدوائر الطبقة العاملة الذي فقده في عام 2019 أمام سحر جونسون الغريب، وعلى هذا فإن الحكومة الجديدة تستطيع الترويج لكونها حكومة بريطانية تحظى بإجماع، بخلاف الحكومات السابقة، ومع ذلك، فإنه حتى مع إمساك ستارمر بزمام السلطة، فإن الطريق أمامه وعر، لأن الهزات الأعمق التي أدت إلى تآكل الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في بريطانيا سوف تستمر تحت السطح، ولهذا، يجب أن ينجح الرجل الجديد في اختبارات الملف الاقتصادي، والذي بدونه سوف تصبح وعوده جوفاء، ولن يفرق عن سابقه، فمستويات المعيشة في انحدار صادم، والفجوات الاجتماعية تتسع بشراسة بين جنوب إنجلترا وبقية المملكة المتحدة، ومن دون ضخ مليارات جديدة، فإن الانهيار الوشيك للخدمات العامة والصحية يهدد بتدمير هوية الاقتصاد البريطاني.