محمود حسونة
رافقت الحروب عبر التاريخ أكاذيب وشائعات، بل إن حروباً اندلعت بناءً على كذبة، والغزو الأمريكي للعراق ليس ببعيد، تم بكذبة اختلقتها الولايات المتحدة وأقنعت بها بعض الدول، عندما وقف كولن باول وزير الخارجية الأمريكي يوم 5 فبراير/ شباط 2003 أمام مجلس الأمن مع أنبوب اختبار صغير يحتوي على مسحوق أبيض، وقدمه إلى العالم على أنه الدليل على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، كذبة ندم عليها باول فيما بعد، ولكن ماذا ينفع الندم بعد تدمير العراق وزرع الفتنة بين طوائفه ومناطقه، وهي كذبة لا يزال الشعب العراقي يدفع ثمنها حتى اليوم.
أكثر الحروب التي راجت خلالها الأكاذيب كانت الحرب العالمية الثانية، لم ولن يغفر التاريخ لجوزيف غوبلز وزير الإعلام والدعاية لهتلر أكاذيبه التي دفع ثمنها العالم، الذي كان شعاره «اكذب حتى يصدقك الناس». الوزير النازي وزوجته قاما بتسميم أبنائهما الستة ثم انتحرا بالرصاص، بعد أن ضلل العالم وأفسده.
مات غوبلز ولم يمت نهجه، واليوم ونحن نتابع أكثر من حرب في أكثر من بقعة حول العالم ندرك أن غوبلز ترك وراءه الكثير من التلاميذ الذين ساروا على دربه، يروجون الأكاذيب والشائعات لتلاحق الإنسان عبر وسائل الإعلام الموالية للأطراف المتحاربة، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي المجندة لمصلحة أطرافها، ولكنها غالباً لا تحقق النتائج التي حققها غوبلز، فشعار «اكذب حتى يصدقك الناس» لم يعد صالحاً للزمن المعاصر، فالإنسان المعاصر يرى ويسمع ويتكلم، يعايش بعينيه وعقله وإنسانيته ما يحدث في ميادين القتال، سواء ما ينقله الإعلاميون أو ما ينقله شهود العيان عبر وسائل التواصل التي منحته أيضاً مساحة لأن يتكلم ويصرخ ويستخدم كل المتاح لإقناع الآخرين بوجهة نظره، أو لدحض معلومة كاذبة يتداولها آخرون عبر «السوشيال ميديا».
منذ اندلاع الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا قبل 30 شهراً ونحن نسمع ما يشيب له الولدان وينشر الرعب في ربوع العالم من كذب وتهديد ووعيد بحرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر، يعلو فيها الصوت النووي، وهو ما ألقى بظلال قاتمة على الاقتصاد والاستقرار العالمي، ورغم طول الحرب ما زالت الأكاذيب تتوالى، وكأن ما حدث من قتل ودمار وتأزيم لا يكفي.
ما نشاهده حالياً وما نسمعه تحديداً منذ اندلاع حرب غزة، يحتدم ويكبر ويتضخم وتتدخل فيه أطراف عدة ودول كبرى بشكل مباشر وغير مباشر، وما يحصل على الأرض من قتل للأطفال وإبادة لعائلات وتدمير لأحياء وتهجير للمدنيين.. ترافقه آلة تدميرية أخرى، غير عسكرية وغير مرئية، آلة تطلق الشائعات والتهويلات وتصيب أعصاب الناس بحالة من التوتر الشديد، وفي الدول المجاورة، قلق يبلغ حد ترقب توسع الصراع واندلاع حرب إقليمية فيقف العالم كله على قدم واحدة يعد الساعات وتنطلق التحليلات وتتضخم الأحداث في المخيلة وفي الكلام المرسل في كل اتجاه، كلام من مسؤولين وجهات معنية ورسمية أو من مصادر خفيّة ومن محللين وإعلاميين، يختلط الحابل بالنابل، الحقيقة بالأوهام، وتُقرع طبول الحرب «التي ستطال الجميع».
حرب غزة تفوقت على الحرب العالمية الثانية في الشائعات والأكاذيب، وأثبتت أن غوبلز لم يكن الأكثر ترويجاً للأكاذيب في تاريخ الحروب بالعالم، أكاذيب من الطرفين، الفصائل الفلسطينية تروج أنها الأشد بأساً وتدعي الانتصار.
صحيح إسرائيل لم تحقق أهدافها من الحرب ولم تقض على «حماس» ولكنها قضت على غزة وأبادت أهلها وحولت الناجين منها حتى اليوم إلى مطاردين بين مناطقها، لا أمان في أي بقعة في غزة، ولا طعام ولا دواء ولا أي من مستلزمات العيش. إسرائيل تفوقت كثيراً في الكذب منذ 7 أكتوبر الماضي وحتى اليوم، سيل الأكاذيب لا ينقطع، كانت البداية مع كذبة «الأربعين طفلاً الذين قطعت حماس رؤوسهم»، والتي صدقها ورددها ساسة أمريكا والغرب وعلى رأسهم الرئيس جو بايدن شخصياً وكل أركان إدارته، ولن تكون النهاية صاروخ مجدل شمس الذي استخدمته ذريعة للاعتداء على الضاحية الجنوبية في بيروت، والذي قد يكون عود الكبريت الذي يشعل الإقليم، وبينهما أكاذيب وادعاءات وشائعات لا تعد.
أكاذيب إسرائيل تجاوزت الفلسطينيين إلى كل دولة وكل شخصية وكل مؤسسة دولية رفضت الانتهاكات الإسرائيلية، أكاذيب على الأمم المتحدة وأمينها العام ومؤسساتها المختلفة، أكاذيب على محكمتي العدل والجنايات الدوليتين، أكاذيب على مصر والعديد من دول المنطقة والعالم، ولم تسلم من أكاذيبها أي قيادة حذرت من عواقب هذه الحرب غير المسبوقة والمرشحة تداعياتها للنيل من استقرار المنطقة برمتها. سيل الأكاذيب الإسرائيلية لم ينطل على الرأي العام العالمي، الذي فضحه وكشفه لتخسر إسرائيل التعاطف العالمي، لتثبت حرب غزة أن زمن شعار «اكذب حتى يصدقك الناس» ولّى إلى غير رجعة.
التعليقات