يمكن القول بأن زمن الصالونات الثقافية لم ينتهِ، بل حاله مثل حال الثقافة التي تعتبر انعكاساً للتطورات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات. وقد شهدت الصالونات الثقافية تغييرات كبيرة لتساير التطورات المعاصرة وتستفيد من هيمنة التكنولوجيا ومواكبة انتشارها المتسارع كالبرق، هذا التطور وإن كان سبباً في تراجع الصالونات الثقافية التقليدية بمعناها المعروف كمكان لتجمع الأدباء لكنه يتنوع حالياً ما بين لقاءات في أماكن مختلفة وأخرى افتراضية عبر المنصات الرقمية لتمكين روادها من مختلف أنحاء العالم المشاركة في النقاشات التي لم تعد تقتصر على الأدباء، بل أصبحت تضم عشاق القراءة والكتب من عامة الناس.ومن زمن مجالس العصر الجاهلي والعصرين الأموي والعباسي وصالون ولادة بنت المستكفي في الأندلس إلى ميّ زيادة والعقاد وغيرهم في القاهرة والدول العربية وأشهرها الملتقى الأدبي في الإمارات الذي أسسته أسماء المطوع، تغير المشهد الثقافي وطرق التفاعل والتواصل بين الأفراد منتقلاً إلى المدونات ووسائل التواصل الاجتماعي بحيث بات ممكناً للناس التفاعل معاً من أي مكان وفي أي وقت، وأصبحت هذه الصالونات تجربة للقراءة والمناقشة والاحتفاء بالكتاب من المحترفين والموهوبين الشباب.في الواقع، لم تنتهِ الصالونات الثقافية تماما بل تم استبدال طبيعتها التقليدية بوسائل جديدة تتلائم مع العصر وهذا التغيير الذي كان ضرورياً لا يلغي أهميتها بل يجعلها أكثر تفاعلاً وقدرة على تحقيق أهدافها اليوم، ويبرهن على أن التكنولوجيا لم تكن عائقاً أمام الثقافة، بل أصبحت أداة لتعزيزها وتوسيع نطاقها مما يسمح لها بالتأقلم مع التغيرات المتسارعة في العصر الحديث.وأحدث هذا التغيير تحولات جذرية في كيفية وصول الناس إلى الثقافة وتبادلها، وأصبح من الممكن الوصول إلى كمٍّ هائل من المحتوى الثقافي من مقالات وكتب وبرامج ومحاضرات وغير ذلك، ولم تعد النقاشات محصورة بين النخب المثقفة فقط، بل بات بإمكان أي شخص المساهمة وإبداء رأيه عبر هذه الوسائل كافة.علاوة على ذلك، ظهرت أشكال جديدة من الصالونات الثقافية الرقمية المتمثلة في المدونات الجماعية ومنصات «البودكاست» وغيرها لتوفر فرصة للتواصل الثقافي بطرق مختلفة، حيث يمكن للأفراد إنشاؤها والاستماع إلى المحاضرات والنقاشات والمشاركة فيها من خلال التعليقات والمناقشات الفوريةوكما كانت الصالونات الثقافية في الماضي مراكز مهمة لتبادل الأفكار والمعرفة، وفرصة لاجتماعات الأدباء والفلاسفة لمناقشة القضايا الأدبية والفكرية وإثراء المجتمع وتوسيع آفاق المشاركين فيها بما تتضمنه من معلومات وآراء لديها القدرة على بلورة التقدم الأدبي والفني وتوجيهه نحو المستقبل، تقوم الوسائل البديلة اليوم بالمهمة نفسها إن لم تكن أفضل من سابقتها، فهي تسهل اللقاء والحوار والمناقشة وتضيف على ذلك تسجيلها لمن لم يحضرها للإفادة منها في كل وقت.وكما اعتبرت الصالونات الثقافية مكاناً للابتكار الثقافي وإبراز الأفكار وتوطيد الصداقات والأعمال المشتركة في بعض الأحايين، فإن الوسائل الحديثة تتيح الفرصة للراغبين في الابتكار بمشروعاتهم الأدبية والثقافية والاستفادة من التكنولوجيا في تنويع مصادر القراءة والنقاشات واستخدام كل ما يمكن لإشراك أكبر عدد من الحضور وتنويع العروض ونشر الملخصات وتقديم كل ما يمكن لجذب المزيد من المشاركين وتوسيع رقعة الثقافة في المجتمع.ومما لا شك فيه أن التكنولوجيا لم تقف في طريق الصالونات الثقافية بل منحتها فرصة ذهبية للتوسع والوصول إلى جمهور أكبر وأبعد، وحررتها من قيود الزمان والمكان للانتشار بسرعة والوصول إلى شرائح جديدة من المجتمع والقراء لدخول هذا العالم من أرحب أبوابه وعدم حكره على الأدباء فقط.