حاتم البطيوي

سألت الرئيس الموريتاني الراحل العقيد اعلي ولد محمد فال هل يمكن اعتباره "سوار الذهب الموريتاني"؟، فجاء رده "خليني موريتاني وبس".

كان الداعي للسؤال هو أن ولد محمد فال أعلن تقليص الفترة الانتقالية لحكم المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية الذي كان يترأسه آنذاك، الى 15 شهراً بدل 24، كما أعلن رغبته مع زملائه في الانسحاب من الحكم بعد انتهاء هذه المدة وتسليم الحكم الى المدنيين.

أطاح العقيد ولد محمد فال ورفاقه الرئيس معاوية ولد الطايع في انقلاب جرى يوم الثالث من آب (أغسطس) 2005. لكن الأهداف والشعارات التي رفعوها في بلد المليون شاعر، كشفت أن ضباط المجلس العسكري يختلفون عن غيرهم من العسكر الذين حكموا في مناطق عدة من العالم، فهم فضلوا أن يحملوا على صدورهم نياشين الديموقراطية باعتبارها نصراً عسكرياً يحقق الاستقرار والتنمية والرخاء في أي بلد، ومن هنا جاء قرارهم تقليص مدة الفترة الانتقالية من 24 شهراً الى 15 شهراً.

في حوار أجريته مع هذا العسكري المثقف الذي يصفه كثير من المقربين اليه بأنه "قارئ نهم للكتب" في قصر "الستينية" البديع في مدينة مراكش ونشر في جريدة "الشرق الأوسط" يوم 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، على هامش زيارته الرسمية الأولى للمغرب، اعتبر الرئيس ولد محمد فال أن القضية هنا ليست قضية تسلم سلطة، بل الأمر يتعلق بالحد من مشكلة سياسية مطروحة على البلد، وبالتالي توجيه البلد للوصول الى حل سياسي يمكنه من تجاوز الأزمات السياسية القائمة وإنهائها.

وإنهائها.

لقد وعد العقيد ولد محمد فال فأوفى، وسلم في 19 نيسان (أبريل) 2007 السلطة إلى ثاني رئيس مدني تعرفه البلاد هو سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.

كان المختار ولد داداه هو الرئيس المدني الأول لموريتانيا، إذ حكم البلاد منذ 28 تشرين الثاني 1960، وأطيح به في انقلاب عسكري بقيادة العقيد مصطفى ولد محمد السالك في العاشر من تموز (يوليو) 1978.

دخل العقيد ولد محمد فال التاريخ من بابه الواسع وأصبح ثاني ضابط عسكري في العالم العربي يزهد في السلطة ويسلمها للمدنيين. فقد سبقه إلى ذلك الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب الذي سلم بدوره السلطة للمدنيين في السودان، عبر انتخابات أدت إلى تشكيل حكومة برئاسة الصادق المهدي زعيم "حزب الأمة" (1986-1989).

ومثلما اعتزل الفريق أول سوار الذهب الحياة السياسية في السودان، مضى العقيد ولد محمد فال على الخطى ذاتها، وقرر بدوره الاعتزال، ولم ينقل عنه أي تصريح أو موقف سياسي.

لكن التغيير الذي كان ينشده العقيد ولد محمد فال من خلال وضع البلاد على سكة الديموقراطية لم ينضج بشكل جيد، فقام مارد طموحات صديقه وغريمه اللدود وابن عمه محمد ولد عبد العزيز بالانقلاب على الرئيس ولد الشيخ عبد الله في السادس من آب (اغسطس) 2008.

وقتذاك، انتقد ولد محمد فال الانقلاب، وأعلن أنه عائد الى مواصلة إصلاحاته التي بدأها عام 2005، كما أعلن ترشحه للرئاسة إثر اتفاق وقع بين فرقاء موريتانيين في دكار يوم 4 نيسان (أبريل) 2009.

لكن انتخابات 18 تموز 2009 جاءت بالجنرال ولد عبد العزيز، وهي انتخابات شككت في نزاهتها أحزاب المعارضة التي وصفتها بـ"الانقلاب الانتخابي". أما ولد محمد فال فأصبح معارضاً بلا هوادة لولد عبد العزيز إلى أن وافته المنية عام 2017.

دخلت موريتانيا بانقلاب ولد عبد العزيز مرحلة من التيه، إذ قضى هذا الأخير عشرية كاملة في رئاسة الجمهورية كانت عجافاً على البلاد.

وحين أوشكت نهاية الولاية الرئاسية الثانية لولد عبد العزيز، دعم هذا الأخير والحزب الحاكم وزير الدفاع محمد ولد الغزواني لرئاسة الجمهورية خلفاً له، آملا في أن يكون ولد الغزواني "ميدفيديف موريتانيا" بحيث يكون بالنسبة اليه مجرد جسر يعبر به إلى ولاية ثالثة ورابعة وربما عاشرة بعد انقضاء ولاية الغزواني.

لكن الرئيس ولد الغزواني فضل أن لا يكون شبيهاً برئيس وزراء فيلاديمير بوتين ميدفيديف الذي أصبح رئيساً لروسيا لولاية واحدة (2008 -2012)،حتى يحلل دستورياً عودة بوتين إلى سدة الرئاسة.

وصل ولد الغزواني إلى قصر رئاسة الجمهورية في نواكشوط ولسان حاله عبارة "أكون أو لا أكون"، وهي العبارة الافتتاحية في المناجاة الفردية التي نطق بها الأمير هاملت في "مشهد الراهبات" من مسرحية "هاملت" لوليام شكسبير، ممارساً سلطاته الدستورية كاملة. ولعل الأمر الذي "كسر الجرة" هو قيام ولد عبد العزيز عقب انتخاب ولد الغزواني رئيساً جديداً للبلاد، بعقد اجتماع للحزب الحاكم، أعلن فيه أنه سيظل مرجعية له، الأمر الذي تسبب في تدهور علاقته بالرئيس الجديد، وتطورها إلى ما آلت اليه.

لا بد من الإقرار بأن موريتانيا شهدت حالة من الاستقرار النسبي منذ انتخاب الرئيس ولد الغزواني عام 2019، وذلك في وقت يعرف محيطها، بخاصة في منطقة الساحل، فوضى وحالات تمرد لمجموعات متشددة مسلحة، الأمر الذي أدى إلى حدوث انقلابات عسكرية فيها، ناهيك بكون موريتانيا لم تسجل أي هجوم مسلح على أراضيها في السنوات القليلة الماضية، وهو ما جعل مسألة فوزه في انتخابات 29 حزيران (يونيو) الماضي بولاية رئاسية ثانية وأخيرة أمراً متوقعاً.

ويبدو أن الرئيس ولد الغزواني قرر المضي بهدوء نحو تثبيث الدولة المدنية التي يجري فيها تداول السلطة بسلاسة. فهو على دراية بالتحديات التي تواجهها بلاده، وقارىء جيد لوضعها الجيوستراتيجي، ويؤمن بضرورة القطع مع منهجيات الماضي، ومن ثم لا مفر من التزام صوت العقل والحكمة والثبات لمواجهة كل التحديات وأعاصير المنطقة، ودخول التاريخ أيضاً.