يقول مثلٌ شعبي لبناني: «ما بيجي شي من الغرب بسرّ القلب». ومن قواعد بناء الكنائس في جبل لبنان إقامة المذبح جهة الشرق، كون «الغرب باب الظلمات»... لكن علاقة الغرب مع مجتمع جبل لبنان، والمجتمع اللبناني، ومجتمعات المشرق العربي، هي أكثر تعقيداً من هذه التوصيفات الجغرافية والطقسية بكثير، خصوصاً في الأزمنة الحديثة، على مدى القرون الخمسة الأخيرة. والسبب واضح جلي: النهضة الأوروبية. تلك الثورة الثقافية الكبرى التي أخرجت «القارة القديمة» من القرون الوسطى وأدخلتها زمن الحداثة. وتلك اليقظة المعرفية والتنويرية والعلمية والصناعية والاقتصادية والقيمية والمجتمعية والسياسية، التي انطلقت منذ منتصف القرن الخامس عشر، وأتاحت للغرب السيطرة على مقدرات العالم.

في السنوات الأخيرة ساد الاعتقاد بأن العالم بات متعدد الأقطاب، الأميركي والصيني والروسي والهندي وغيره، وبأن استمرارية القيادة وثباتها في معظم الديكتاتوريات الكبرى، مقابل اهتزازها وتغيّرها الدائم في الديمقراطيات الغربية، والتراجع الديموغرافي البالغ الذي تشهده هذه الديمقراطيات، وتفاعل صراعاتها الداخلية العميقة، الآيديولوجية والسياسية، لا بدّ أن تؤدي كلها إلى تراجع نفوذ الغرب في العالم. لكن من أهم ما أظهرته حرب الشرق الأوسط المتواصلة منذ 14 شهراً، والمنذرة بتحولات مصيرية في المنطقة، أن الغرب ما زال، وإلى حد بعيد، القوة الأساسية في العالم. بينما بيّنت هذه الحرب بوضوح ضعف التأثيرين الروسي والصيني في مجرى الأحداث، إن لم يكن شبه غيابهما. ويغلب الظن أن «طوفان الأقصى» لم يكن ليحدث لولا الاعتقاد بأن نفوذ الغرب قد تراجع واضطرب في هذه المنطقة، مقابل تمدد النفوذ الإيراني وتصاعده، في تعاونه الوثيق مع روسيا والصين وكوريا الشمالية. لكن مثل هذا الاعتقاد، المستند إلى عقيدة «التوجّه شرقاً»، لم يترجم في الواقع.

باب الظلمات أم باب الأنوار هو الغرب؟ لا أسود أو أبيض في ذلك. وربّ قائل، كما في الظواهر التاريخية الكبرى: الاثنان معاً. من جهة، اكتشاف القارة الأميركية، بشمالها وجنوبها، واقتلاع حضاراتها وشعوبها الأصلية. استعمار كافة أنحاء العالم بالقوة والتصرّف بمجتمعاتها وثرواتها وفقاً للمصالح الأوروبية. زمن مأساوي طويل من تجارة البشر في أفريقيا. حربان كونيّتان رهيبتان، سقط فيهما ثمانون مليون قتيل، ودمار يفوق الوصف، واستعمال السلاح النووي للمرة الأولى في التاريخ. إتاحة إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين. استنفاد الموارد الطبيعية وتلويث الأرض والفضاء في حركة إنتاج - استهلاك لا حدود لها... ومن الجهة الأخرى، خلق مفهوم التقدّم ووضع الإنسان في قلب حركة التاريخ، تكريس العقل النقدي في كافة حقول المعرفة والحياة، الثورة الصناعية والثورة العلمية وتطبيقاتهما المذهلة في العلاقة مع الطبيعة وفي الطب والصحة العامة والمواصلات والاتصالات وسبر مجاهل الحياة والأرض والكون، الثورة الفردية وتحقيق الانتقال من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد المواطنين، نشر مفاهيم الحرية والمساواة بين كافة فئات المجتمع وطبقاته، وبين الرجل والمرأة، تكريس الديمقراطية وجعل الشعب مصدر كل السلطات، الانفتاح الثقافي على كافة المجتمعات وإتاحة الاستفادة الأممية من التطبيقات العلمية، خصوصاً الطبية منها.

وفي عودة إلى المشروع اللبناني، طالما اتهمه أصحاب المشروع الإقليمي في لبنان بالتعامل مع الغرب، وأكثر من ذلك بالتبعية للغرب، وأكثر أيضاً بأنه صنيعة الغرب. التهم هي نفسها منذ المشروع العثماني، إلى المشروع السوري الفيصلي، والسوري البعثي، والسوري السعادي، والوحدوي العربي الناصري، والأممي الماركسي، والإسلامي الإيراني.

لكن المشروع اللبناني المنطلق أساساً من فرادة جبل لبنان الجغرافية والتاريخية، التائق إلى الإفلات من النظام السلطوي حوله نحو أفق وجودي مختلف، أي طريق لديه يسلكه غير طريق الحداثة؟ وأين هي الحداثة خارج التفاعل مع الغرب؟ فهذه هي أقدار التاريخ. لو ظهرت نهضة الخروج من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة في بغداد، أو دمشق، أو قم، أو أصفهان، أو بعيداً عنّا في بكين، أو دلهي، لكانت طريق الحداثة هي حتماً، منذ البداية، طريق الشرق. لكن عندما تجعل حركة التاريخ فلورنسا منطلق النهضة الحديثة في العالم، في الفنون أولاً ثم في سائر المجالات، قبل أن تنتقل منها إلى سائر أنحاء أوروبا، فكيف التفاعل مع الحداثة إلا غرباً؟ خصوصاً أنه قُدِّر لمجتمع جبل لبنان التواصل مع الحداثة قبل قرنين من سائر مجتمعات المشرق، وأن يُرسل المتفوقون من أبنائه للتخصص في روما منذ عام 1584، وأن يكتشف أميره، فخر الدين الثاني، فلورنسا، ويقيم فيها منذ عام 1613.