في يوم استقلال ليبيا نتساءل: ماذا تحقَّق خلال 75 عاماً؟ البلادُ في أسوأ حالاتها، والصراعُ على السلطة على أَشُدِّه... أمَّا المستقبل فلا تفكير فيه. بلادٌ أصابها الوهن، والأمم من حولها تنمو وتزدهر، والسلطوين يتناطحون في ما بينهم.
السؤال في العنوان أعلاه يفرض نفسه على النخب السياسية وعلى غيرها في ليبيا؛ ذلك أنَّ التجربةَ السياسية الليبية المؤلمة منذ سبتمبر (أيلول) 1969 حتى يوم الناس هذا، تُعدُّ نموذجاً مأساوياً للدول التي «تمتلك الموارد» و«تفتقد الرؤية»؛ حيث تحوّلتِ الثروةُ النفطية، التي حباها اللهُ بها، من أداةٍ لبناءِ غدٍ مشرق، إلى وسيلةٍ لتحقيق طموحات شخصية وخوضِ غمارِ مغامراتٍ وحروبٍ خاسرة، ثم تحولتْ لاحقاً وقوداً يغذي الانقسامَ والتمزقَ الاجتماعي، ويعمّق الفوضى والفساد. وفي ذلك الخضم لم يعد التفكيرُ في حقوق الأجيال المقبلة واجباً وطنياً وأخلاقياً وإنسانياً. بالتالي، فإنَّ استعادةَ البوصلة الوطنية المفقودة ليست مجرد ترف سياسي، بل هي مطلبٌ أساسي وضرورةٌ وجودية للخروج من النفق المعتم الحالي نحو أفق المستقبل وبناء الدولة الحديثة.
في معمعة الأزمات اليومية المتوالية دون نهاية منذ فبراير (شباط) 2011، تختلط الأمور وتشتبك على نحو محزن على الصُّعد كافة، وتضيع في فوضاها، للأسف، أولوياتُ المستقبل، وتَغيبُ كليةً عن حساباتِ النخبِ التي تتولى مقاليدَ الأمور في البلاد أسمى واجباتها: الحرص على صناعة غدٍ أفضل للأجيال المقبلة.
الإمعانُ في نهب موارد الدولة، واستشراءُ الفساد وتَحوّله إلى ثقافة، وانهيارُ بنى التعليمِ والصحةِ وغيرِهما من القطاعات الخدمية، وتردي قيمة الدينار الليبي، وتحويلُ المال العام آلةً للربح الفوري لفئة انتهازية... كل ذلك، دون شك، خيانةُ للمستقبل.
السؤال الجوهري الذي يجب أن يؤرق الجميع: أي وطن سنورّثه لأبنائنا وأحفادنا؟ هل هو وطن المؤسسات والعدالة والعلم والمساواة في الفرص، أم خرائب وأنقاض مهشّمة تركتها صراعات عقيمة على أموال «مَوْرِدٍ» تؤكد كل الحسابات العلمية أنه ناضبٌ لا محالة؟
الخروج من الحالة الراهنة ضرورة وطنية، وهو يتطلَّب ويشترط، أولاً وقبل كل شيء، توفر «إرادةٍ سياسية» و«رؤيةٍ وطنية شاملة»، تحرصان معاً على تحويل مفهوم الدولة من ساحة مفتوحة للصراع على الغنائم، إلى منصة ترتكز عليها وتنطلق منها النهضة. الغد المأمول يبدأ من اليوم.
بناء الدولة الليبية المنشودة يسير باتجاه معاكس؛ في الطريق التي دُفعت إليها ليبيا قسراً منذ فبراير 2011. وهو يتطلب أولاً نُخباً وطنية ذات كفاءة تتوفر لديها «الإرادة السياسية» و«الرؤية الوطنية»، وتؤمن بأنَّ الاستقرارَ وتوطيدَه يرتكزان على أسس وأعمدة واضحة؛ أبرزها: الكفاءةُ، وحكمُ القانون لضمان ألا تظل الثروة حكراً على من يملك السلاح، والتوجهُ نحو الاستثمار في الإنسان وليس في شراء وتكديس الأسلحة... وهذا يستلزم مواكبةَ التحوّلات التقنية العالمية، وعلى رأس القائمة يأتي السعيُ الجاد إلى تنويع الاقتصاد للتحرر من سطوة الريع النفطي.
يتجلَّى حجم الفرص الضائعة في ليبيا بوضوح لدى مقارنة وضعنا بالنماذج الناجحة في كثير من البلدان النفطية، التي استثمرت مواردَها في بناء مدن ذكية وتنمية بشرية مستدامة؛ مما يثبت أن النفط ليس نقمة في حد ذاته، بل «العجزُ الإداري» و«غيابُ الرؤية» هما اللذان يُحيلانه نقمة.
تجاوُز الفوضى الحالية في البلاد ليس مستحيلاً إذا خلصتِ النيّات وَصَفَتِ النفوس. وهو يبدأ من الاتفاق على مشروع وطني يضع مصلحة الوطن فوق المصالح الضيقة. ليبيا تحتاج إلى هندسة مستقبل يضمن العدالة بين الأجيال. هذا التحوّلُ لن يُصنَع في قاعات التفاوض الدولية وحدها، أو خلف كواليس تَقاسُمِ الغنائم ومناطق النفوذ، إنما يُبنى في الصفوف الدراسية حيث تُغذَّى العقول بالمعرفة، وفي المختبرات حيث تُخلق القيمة.
الرهان الحقيقي اليوم هو على الإنسان الليبي الذي تحمّل صامداً طويلاً، ويستحق أن يُمنح فرصة للبناء. والدربُ نحو دولة المستقبل لا يَخفى، ويبدأ بخطوة شجاعة: الاعترافُ بأن الثروة الحقيقية ليست في عمق الأرض، بل في بناء الإنسان، وفي ترسيخ الإرادة الجماعية لجعل جودة الحياة معيارَ الغنى الحقيقي. عندها فقط ستتحول ليبيا من حالة استثنائية في الفشل إلى قصة استثنائية بالنهوض.














التعليقات