من عاشوا طرد قوات صدام حسين من الكويت، يذكرون تلك الغيمة المشؤومة التي خيمت على سماء المنطقة، والتي كانت بسبب حرق آبار النفط عقابا لمن قادوا حملة طرده .

شهور مرت والخليج يتنفس دخان النفط، فالحرائق كانت كبيرة، والتلوث البيئي كان في أشد حالاته سوءا .

تلك الحرائق تتضاءل الآن أمام حرائق أشد وطأة، تعم كل المنطقة من المحيط إلى الخليج، وكأنها مارد كان نائما ليصحو فجأة ملوّحا بقرونه السامة في وجه الجميع .

إنه صراع الهوية، هذا البركان الذي ظل يزمجر في باطن الأرض، متفقدا القشرة الأضعف لينفذ من خلالها، ولعله بدأ تحقيق بعض الاختراقات .. انتظارا للانفجار الكبير!

في زمن الهياج بالقومية العربية، استطاع جيل جمال عبدالناصر فرض المفاهيم المتعلقة بالعروبية كهوية للمنطقة .. في محاولة لتوحيد كلمتها، ومواجهة التحديات المشتركة الماثلة آنذاك .

وببعض الشفافية، يمكن القول إن ذلك المفهوم حقق الكثير من أهدافه في ذلك الوقت، بل وأدى إلى جمع الكلمة في الكثير من ظروف الاحتقان، وأظهر العرب كقوة تستحق الالتفات إليها، خصوصا بعد المصالحة التاريخية التي تمت في الخرطوم بين الزعيمين الملك فيصل بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية والرئيس جمال عبدالناصر رئيس مصر، عقب هزيمة يونيو 1967 .

ما فات على دعاة القومية العربية، بل ودعاة أي تحشيد قائم على الأساس العرقي، أن هناك قوى أخرى تشكل أقليات لكنها قابلة للنمو والتململ، وقابلة لأن ترفع عقيرتها بالوجود وبحقها في التعبير عن نفسها دون تهميش أو وصاية .

كل العالم العربي لم يخل عبر تاريخه من اثنيات تم مصادرة حقوقها بشكل أو بآخر، فظهرت لاحقا آثار تلك المنهجية، سواء في العراق، أو السودان، أو الصومال، أو سوريا، أوالجزائر، أوغيرها، وحتى الدول الناجية ـ حتى الآن ـ مرشحة لصراع الاثنيات إن لم يتم تدارك الأمر سريعا، فالوميض يبدوجليا تحت الرماد لذوي الأبصار !

وفي وقت كانت الهوية العربية هي الأعلى صوتا في المنطقة، كان تيار الهوية الإسلامية الموجه سياسيا ينمو ويبدو أكثر استيعابا للتناقض الاثني المتوقع، وبالفعل بدأ يحقق وجوده القوي سواء في مصر من خلال حركة الاخوان المسلمين، أو في فلسطين من خلال حركة حماس وتبنيها لما سمي (ثورة أطفال الحجارة) .. أو فيإيران من خلال ثورة الخميني، أو في الجزائر من خلال الانتخابات البرلمانية الشهيرة التي اكتسحها الاسلاميون في خواتيم 1991 قبل إطاحتهم .. أو في السودان من خلال انقلاب عسكري حمل أفكار حسن الترابي وتلامذته إلى سدة الحكم في الخرطوم .

وفيما كان التيار الإسلامي يبدو أكثر تأهيلا ليرث الهوية العروبية في تجميع الصف وتوسيع القاعدة، كانت الساحة تضطرم بهويات نقيضة بدأت في حشد صفوفها على مستوى كل دولة على حدة، وهي هويات تنضوي تحت قسمين رئيسين، الأول هو الأقليات غير المسلمة، ومعظمها من معتنقي المسيحية، والثاني هو التجمعات الإسلامية المتباينة تاريخيا، والمتصارعة على أحقية منهجها بالسلطة داخل البيت الإسلامي .. وأبرزها تيارات الشيعة باختلاف أقسامها، وتيارات السنة والسلفية على اختلاف أساليبها ومرجعياتها الفقهية والتاريخية .

وفي وقت كان خيار الهوية الإسلامية يحقق مساحات أوسع .. كانت عثرات تجربته عقديا وسياسيا تسحب البساط من تحت أقدامه، ليصبح متشعب المسارات والرؤى، ومحفزا لصراعات خطيرة تتهدد الجبهة الداخلية لكل بلد، بل وتتهدد المسلمين أنفسهم بين بعضهم البعض داخل أقطارهم.

إن ما يجري في المشهد العام يشير إلى أن أزمة الهوية ما زالت شديدة التأثير على واقع المنطقة وربما على مستقبلها، وقد ينتج عنها حالات تشظ وكيانات مستقلة عن كياناتها الأم تفتقد القدرة على البقاء، فتصبح بؤرا تتهدد السلام الإقليمي، وترمي بآثارها على السلام العالمي بأكمله .

وتأسيسا على ما يجري، يصعب أن نقرأ المستقبل بدقة، لكن يمكن القول إن حالات التفاعل والاستشعار الجمعي للخطر قد تؤدي لاحقا إلى قناعات جهوية (شرق أوسطية)، أي هوية إقليمية بما يشبه التجربة الأوروبية أو الإفريقية، تتضاءل من خلالها التناقضات العقدية والإثنية، وتفرض هيمنتها من واقع دافعية المصلحة لا نزعة التنافس والهيمنة .. فتصبح الخارطة الإقليمية شاملة لكل الكيانات، ومتجاوزة للعداوات التاريخية كي تبقى السفينة قادرة على أن تمخر عباب البحر بسلامة وأمان .

وحتى ذلك الوقت.. تبقى المنطقة كلها مستمرة في حالة التشكل، وفي حالة الصراع الفوضوي المجنون، ليخرج في المنتهى واقع آخر من بين تلال الركام .

ــــــــــــــ

[email protected]