عندما اكتشف إسحق نيوتن قوانين الجاذبية لم يكن العالم الكمومي أو الكوانتي في اللامتناهي في الصغر، معروفاً آنذاك، ولم تكن فيزياء الجسيمات مألوفة من قبل علماء ذلك الوقت. لذلك كان التصور الكوني في حقبة نيوتن محدوداً رغم صحة نظرية الميكانيك النيوتني وتطبيقاتها المهمة. وفي العام 1905، أي في بداية القرن العشرين، أحدث ألبرت آينشتين ثورة علمية في الفيزياء وعلم الكونيات بنظريته النسبية الخاصة والعامة. لكنه اقتصر على الثقالة والجاذبية ولم يتعمق كزميله وصديقه ماكس بلانك في عالم الجسيمات واللامتناهي في الصغر رغم كونه أحد مهندسي عالم الكموم أو الكوانتوم. فالتفاعلات الآينشتينية تحدث إذن في المستويات العليا الكبيرة في اللامتناهي في الكبر. ولكن لو رجعنا القهقري وتوغلنا في ماضي الكون حسب معطيات وقوانين ومعادلات النسبية العامة لآينشتين، فسوف نرى أن حجم الكون المرئي سيتقلص تدريجياً كالفيلم السينمائي المعروض عكسياً. أي بدل التوسع سوف نرى التقلص والإنكماش. ولو عدنا إلى ما يقرب الــ 13.85 مليار سنة، سوف نجد أن المادة سوف تواجه ظروفاً فيزيائية غاية في الخصوصية والتميز، بحيث لم يعد للنسبية العامة القدرة على وصفها وحدها وبأدواتها الخاصة بها. لأنه في تلك الظروف الشديدة الخصوصية سوف تحدث تفاعلات جوهرية أخرى غير الثقالة أو الجاذبية وهي التفاعلات الكهرومغناطيسية والتفاعلات النووية القوية أو الشديدة والتفاعلات النووية الضعيفة على المستوى مادون الذري. خاصة في درجات حرارة وكثافة لامتناهيتين وهنا يدخل الميكانيك الكوانتي أو الكمومي ويلعب دوره في وصف ما يجري من تفاعلات وفق مباديء الفيزياء الكمومية أو الكوانتية التي تختلف كلياً مع تلك المقترنة بالنسبية العامة.
فالنسبية العامة لاتتعامل مع القوى الجوهرية الكونية الثلاثة الأخرى، عدا الجاذبية أو الثقالة فهي الوحيدة التي تتعامل معها، وبالتالي فإن النسبية ليست قادرة وحدها على التعاطي من الكون الأولي البدئي univers primordial، وفي هذه الحالة سيصطدم الجميع بمعضلة تعرف بــ " جدار بلانك Le Mur de Planck" إن هذا المصطلح أو المفهوم الفيزيائي يحدد لحظة مهمة من تاريخ الكون المرئي وهي لحظة مر بها الكون المرئي وتغيير فيها كل شيء. لأن النظريات الفيزيائية الحالية تقف عاجزة عند هذا الجدار اللغزي، أي إنها عاجزة عن وصف جدار بلانك وتفسيره ووصف ما جرى بالضبط عنده. فهل هناك ماقبل وما بعد جدار بلانك؟ نحن مرغمون على التحدث فقط فيما بعد جدار بلانك وليس ما وراءه، أو قبله. يرتبط بجدار بلانك عدة عوامل وحقائق وقيم مثل " طاقة بلانك" ومكان بلانك أو طول بلانك، وزمن بلانك أو مدة بلانك، الشديدة الخصوصية. فطاقة بلانك énergie de Planck تقدر بــ GeV 1019، أي عشرة مليارا المليار طاقة كتلة البروتون، ما يعني أن المادة آنذاك كانت هائجة agitée و مضطربة وذاهلة affolée على نحو شرس ومجنونة للغاية كما لو إنها مصابة بنوبة عصبية مرضية شديدة. و طول بلانك la longueur de Planck يقدر بــ 10-35 من المتر أي أصغر بما لا يمكن تخيله من الإلكترون والكوارك وهو الطول المقدر للوتر في نظرية الأوتار. وفيما يتعدى أو يتجاوز هذا البعد القياسي أو المسافة اللامتناهية في الصغر لن يعد هناك أي معنى لمفهوم المكان الذي اعتدنا وصفه حسب قدرتنا الإدراكية. وبالتالي فإنه سينهار. أما زمن بلانك فيقدر بــ 10-43 من الثانية أي عشرة أس 42 بالسالب، ولا يمكن لأحد من البشر أن يتخيل أو يدرك هذه المدة الزمنية اللامتناهية في الصغر. ولقد وقع الكثيرون في خطأ القول أن عمر الكون يعود إلى تلك اللحظة، أي إلى مابعد زمن بلانك، فلا أحد يعرف ما حدث قبل زمن بلانك. لأنهم بذلك يعترفون ضمناً بوجود الزمن صفر وهذا غير مثبت علمياً. أما ما قبل زمن بلانك فإن مفهوم الزمن التقليدي الذي نعرفه يختفي ويصبح إشكالية problématique ويفقد معناه، بحيث لا يمكننا على الإطلاق الحديث، في هذه الحالة، عن أية مدة زمنية انصرمت بين جدار بلانك والانفجار العظيم البغ بانغ.
فجدار بلانك هو الحد الذي يمنعنا من الوصول إلى أصل الكون المرئي الحقيقي ويمثل حدود مفاهيمنا الفيزيائية التي ثبتت صلاحيتها وصحتها لحد الآن فهي صالحة لوصف وشرح وتفسير ما حدث بعد الانفجار العظيم وليس ما حدث في الجانب الآخر من جدار بلانك قبل الانفجار العظيم أو حتى خلاله.
حدثت بالطبع عدة محاولات جريئة لوصف الكون المرئي الأولي أو البدئي في لحظة نشوئه والذي أفترض أنه كان شديد السخونة وشديد الكثافة بما لا يقاس، وتوسلوا بعدة سبل ومنهجيات وفرضيات محتملة hypothèses، خاصة فيما يتعلق بنسيج الزمكان وهندسته وشكله وماهيته وافترضوا أنه يمتلك أكثر من الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الزماني الرابع في المستوى الميكروسكوبي ما دون الذري، وهو ليس ناعم مستوي وقابل للإلتواء والتحويل نظرياً، أو خصماً ومناوئاً لشيء ما ليس من الزمكان بشيء. وإحدى تلك المحاولات الجريئة لتجاوز جدار بلانك هي نظرية الأوتار الفائقة la théorie des supercordes، وتقول أننا لو تفحصنا، بواسطة مجهر خارق فائق القوة، جسيماً أولياً فسوف نكتشف شيء غير محدد و لا واضح المعالم non ponctuel بل كائن ذو بعد واحد unidimensionnel نوع يشبه الفتيل المجهري، أو يشبه الوتر، على شكل خيط مفتوح أو حلقي، واقترحت النظرية تعديلاً جوهرياً في ماهية الزمكان الآينشتيني وذلك بإضافة أبعاد مكانية إضافية منطوية على نفسها لامتناهية في الصغر يتعذر رصدها أو كشفها، لكنها موجودة وفي حالة اهتزاز وتردد كأوتار الآلات الموسيقية الوترية التي تولد ألحاناً مختلفة، فهذه الأوتار تولد باهتزازاتها وذبذباتها وتردداتها المتنوعة، مختلف الجسيمات الأولية التي تتفاعل فيما بينها، سواء تلك التي نعرفها أو تلك الافتراضية أو الكامنة والمختفية التي لم نكتشفها بعد. ولقد تنبأت أو تكهنت هذه النظرية بأن درجة الحرارة في الكون لا يمكن أن تكون أعلى من القيمة القصوى أو الدرجة الحرجة وبالتالي لا يمكن أن تكون لانهائية في أي لحظة من عمر الكون المرئي. وارتبط بهذا التحديد حدود أخرى للكثافة ولتحدب أو انحناء الزمكان، أي أن الكون المرئي لم يكن قط دقيقاً، وحجمه لم يكن قط معدوماً أو لاغياً، ولا كثافته لا متناهية، وينتج عن ذلك أن الفرادة الكونية الأولية الأصلية التي تحدثنا عنها في الحلقات السابقة، لم تحدث أبداً ولم تكن موجودة على الإطلاق، وهذه إحدى نجاحات هذه النظرية الباهرة لأن الفرادة هي كابوس العلماء. بعبارة أوضح، لو ثبتت صحة نظرية الأوتار الفائقة، فذلك سيعني أن الانفجار العظيم لا يشبه البتة ما تصورناه عنه.
بعض السيناريوهات الافتراضية عن مرحلة ما قبل الانفجار العظيم شبهته بمرحلة شديدة الكثافة والضغط يمكن أن تشكل جسراً كمومياً أو كوانتياً بين كوننا المرئي في بداية توسعه وبين كون آخر سبقه وانتهى إلى حالة تقلص وإنكماش، أي أن الكون شهد حالة تطور تناظري أو تماثل متعاكس بين ما قبل وما بعد البغ بانغ – الانفجار العظيم –، فكثافة المادة حينذاك، بدلاً من أن تتقلص، تغدو مرتفعة أكثر فأكثر، والحرارة تزداد، في حين تنخفض أبعاد الكون إلى أن تبلغ الكثافة والطاقة فيه الحدود الحرجة التي تسمح بها نظرية الأوتار الفائقة، عندها لم يعد ممكناً للكون أن يتقلص وينكمش أكثر لأن ذلك سيزيد من درجة حرارته فيرتد على نفسه ويتمدد، وكل القيم القياسية سوف تعكس اتجاهها، وبالعكس، وهذه الصيغة المفترضة والمقترحة تقلب على عقب الصورة التقليدية التي لدينا عن الانفجار العظيم الذي لم يعد سوى نوع من الحالة الانتقالية بين مرحلتين متميزتين لنفس الكون.
هناك صيغة متطورة لنظرية الأوتار الفائقة هي صيغة نظرية البرانات brans، وتفترض هذه الصيغة التطويرية، أن الأبعاد الإضافية العشرة، عدا البعد الحادي عشر، أي الزمان، لامتناهية في الصغر في حجمها، وكوننا المرئي ليس سوى واجهة ظاهرية من أربعة أبعاد فقط، غارقة في زمكان أوسع يسمى البران أو النخالة حيث محكوم على الأوتار، التي هي أصغر الجسيمات الأولية، الحركة الدائمة والتنقل في حيز زمكاني لا محدود.
وفي إطار هذا التجديد تجرأ علماء على طرح نموذج الإكبيروتيك ekpyrotique أو الإحتواء أو الضم، والذي يستند على فرضية أن البران الذي يوجد فيه كوننا المرئي ليس وحيداً بل يوجد هناك برانات أخرى كثيرة " أكوان أخرى متعددة" تطفو بالقرب من كوننا والفضاء الذي يحتويها مكون من نوع من الفراغ الكمومي أو الكوانتي. لأن الفراغ في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية ليس فراغاً فارغاً أو خالياً من الطاقة بل هو خواء يتصرف على شكل زنبرك أو نابض يدفع زوجين من البرانات للتصادم أثناء التقلصات، عندها تتحول الطاقة الناجمة عن التصادم إلى مادة وإشعاع. وكل تصادم من هذا النوع هو بمثابة بغ بانغ أو انفجار عظيم يؤدي أو يقود إلى نشوء كون جديد قد يكون مشابهاً لكوننا أو مغايراً ومختلفاً عنه كلياً في ماهيته وقوانينه، وبعد التصادم يدخل كل بران من البرانات المتصادمة في حالة توسع وتتشكل فيه المجرات والنجوم والكواكب على غرار كوننا. وكلما تباعدت البرانات تتدخل طاقة الفراغ الكمومي أو الكوانتي لتكبح تباعدهما إلى ما لانهاية وتعمل على التقريب بينهما مرة أخرى ليتصادما وتعاد الكرة مما سينتج بغ بانغ آخر وهكذا دواليك.
وهناك عدة موديلات أو نماذج لهذه النظرية ولكن لا أحد منها يتحدث عن عملية خلق من العدم أو بواسطة قوة خالقة خارجية " الله على سبيل المثال" فالانفجار العظيم فيها هو إما مرحلة انتقالية بين ضفتين لنفس الكون أو ناتج لتصادم بين برانين في نطاق عدد لامتناهي من البارنات " الأكوان" المتجاورة والمتداخلة والمتوازية بحيث تختفي اللحظة صفر والفرادة الكونية الأولية الأصلية التي تحدث عنها النموذج الكوسمولوجي المعياري للانفجار العظيم الكلاسيكي الذي لا يأخذ بالاعتبار سوى الثقالة أو الجاذبية.
هناك من العلماء من يعتقد بأن كوننا المرئي شهد مرحلة تضخم مفاجئ مدوي وهائل بعد الانفجار العظيم مباشرة عرف بـالــ inflation أدى إلى توسع مذهل هو الذي أعطى حجم وشكل الكون المرئي الحالي بقوة 1050، عشرة أس خمسين مرة وبمدة زمنية غاية في القصر تقدر بـت 10-32، عشرة أس 32 بالسالب، من الثانية، ولقد اعترض فريق من الباحثين من جامعة أكسفورد سنة 2016 في خاصية تسارع التمدد الكوني، التي تشكل الأساس النظري لفرضية وجود الطاقة المظلمة ودورها في إحداث التسارع والتمدد المستمر للكون المرئي، وذلك من خلال القيام برصد ومراقبة مئات المستعرات الكبرى أو نجوم السوبر نوفا" المنتشرة في العديد من المجرات، و توصلوا إلى نتيجة مفادها أن الكون يتمدد بطريقة ثابتة و بدون تسارع، عكس ما سجله تلسكوب بلانك الفضائي. و تشير هذه المقاربة الجديدة على استمرار جدلية وجود الطاقة المظلمة أو عدم وجودها، ويترتب على ذلك أن دعامات النموذج المعياري الكسمولوجي، وهي النسبية العامة لآينشتين والميكانيك الكمومي أو الكوانتوم لا تزال بحاجة إلى البحث و التدقيق على ضوء المعطيات الفيزيائية والعلمية الرصدية والتجريبية الجديدة. من هنا فأنه ونتيجة لهذه الصيرورة الفيزيائية، أي التضخم، تولدت أكوان أخرى انتشرت في الحيز الزمكاني الكوني المطلق وهي التي عرفت بإسم " الأكوان الفقاعات univers- bulles، كما تنبأت بذلك نظرية الأوتار الفائقة، وإن كوننا المرئي هو إحداها، أي أنها تكهنت بوجود كون مطلق شديد الانتشار وفيه تعدد أكوان multivers ثانوية أو جزئية، لكل واحد منها فيزيائه وقوانينه، بحيث أصبحت فرضية تعدد الأكوان عادية ومقبولة تدرس في مختلف الجامعات اليوم ولا يمكن تجاهلها أو الالتفاف عليها بينما يعتبرها البعض خطرة من الناحية المعرفية الإبستمولوجية لأنها تغمرنا بالميتافيزيقيا وبالتالي لا بد من البحث عن نظرية جامعة موحدة وشاملة هي نظرية كل شيء تجمع بين النسبية والكمومية أو الكوانتية، وهي تنويع وتطوير لنظرية الأوتار الفائقة وتسمى النظرية م M التي يتوسم فيها العلماء أن تكون هي نظرية كل شيء التي حلم بها آينشتين طيلة ثلاثين عاماً ويأمل ستيفن هوكينغ أن تصلح لهذه الغاية وتثبت نفسها تجريبياً في العقود القادمة. هناك نظريات لا تقل غرابة وصعوبة وتعقيداً، منافسة لنظرية الأوتار الفائقة مثل نظرية الجاذبية الكوانتية أو الثقالة الكمومية الحلقية أو الدورانية théorie de la gravité quantique à boucles، أو نظرية تعدد الأكوان multivers théorie de، وكلها تلغي مفهوم اللحظة صفر والفرادة الكونية، وكل الحسابات الرياضياتية فيها تؤكد أن هناك عالم أو كون سابق لكوننا المرئي وهناك فراغ كمومي أو كوانتي مشبع بطاقة لا نعرفها هي طاقة الفراغ الكمومي التي تنشيء البرانات التي تتصادم فيما بينها في حركة دائمة لتخلق أكواناً أخرى باستمرار وبلا توقف أو انقطاع إلى ما لانهاية. فالذي سبق وجودنا الكوني الحالي ليس عدم أو لاشيء فهناك دائما كينونة من نوع ما. و لايوجد شيء خارج الكون المطلق الذي يكون فيه كوننا المرئي مجرد جسيم صغير لامتناهي في الصغر يؤدي دوره في صيرورة الوجود المطلقة، وعليه فإن هذه الكينونة المطلقة هي الوحيدة الموجودة وهي حية ومتطورة وفي حالة حركة دورانية ذاتية مستمرة. يتبع
- آخر تحديث :
التعليقات