ربما تكون قد سمعت أن الفلسفة هي أم العلوم، أي الأساس الذي انبثقت منه سائر العلوم المختلفة، وربما يقودك هذا إلى الاعتقاد بأنه لم يعد للفلسفة أي أهمية في العصر الحديث طالما أن كل علم قد استقل بذاته وبنى له نظريات خاصة يفسِّر من خلالها الظواهر المختلفة، لكن يؤسفني لو قلت لك أن هذا الاعتقاد خاطئ وقاصر تماماً، ويؤسفني أيضاً لو أخبرتك بأن من لا يتقن الفلسفة ولا يفهمها على حقيقتها سيحرم نفسه من تأملات وحقائق ومعارف لن يستطيع من دون المنهج الفلسفي أن يصل إليها، فبالفلسفة تتوسَّع مدارك عقولنا، وتنمو لدينا مهارة البحث والتأمل والتساؤل، وبها نعرف الحقائق ونُميَّز ونقارن وننقد ونخطئ ونصيب، ونحمي عقولنا ونُمسك بزمامها فلا يتمكَّن أي أحد أن يضع فيها ما يريد ليسيطر علينا بعد ذلك، ونسبح من خلالها في بحرٍ متلاطم من التأملات والآراء والاتجاهات بمختلف مشاربها. وأعتقد أن عدم إدراك قيمة الفلسفة في مجتمعنا يقف خلفه عدم إدراك لأهمية علم النفس تحديداً والعلوم الإنسانية عموماً, وبالتالي فإن الضعف لدينا في تطوير العلوم الإنسانية والارتقاء بها نتج عنه بالضرورة إقصاء كلي للفلسفة.
خصوصاً عندما نعرف أن علم النفس هو البوابة نحو الفلسفة كما يرى ديفيد هيوم ووليام جيمس, حيث أن علم النفس يكاد يكون هو العلم الوحيد الذي ما زالوفيَّاً لأمه(الفلسفة) وما زال يشتاق لحضنها، إلىدرجة أنه كان آخر العلوم التي انفصلت عن الفلسفةواستقل عنها بعد أن طوَّر لنفسه أدوات ووسائلعلمية كسائر العلوم، وذلك ناتج عن العلاقةالاستثنائية بين علم النفس والفلسفة، حيث نجد أنبينهما تشابه في الكثير من المسائل والموضوعاتالتي يهتمان بها، بُدءاً من الباعث الأول للفلسفةوهي الدهشة، وانتهاءً بقضية(نظرية المعرفة)، ليسذلك فحسب! وإنما تكاد تكون الكثير من القضاياالفلسفية ناتجة في أصلها عن الباعث النفسي، أيأنه ربما يمكننا القول بأن علم النفس هو من أنتجالكثير من النظريات والمذاهب الفلسفية، لذا نجد أنديفيد هيوم كان يرى أن علم النفس هو الممثلالحقيقي للفلسفة, وأنه يجب أن يكون هو البوَّابةالرئيسية لدخول عالم الفلسفة, ولا أدل على ذلك منعبارة سقراط(اعرف نفسك بنفسك) التي جعلهااللبنة الأولى في بناء فلسفته، كذلك ديكارت الذيبنى فلسفته على عبارة(أنا أفكر إذاً أنا موجود) حيثتناقش هذه العبارة الوعي، ومن المعروف أن الوعيهو من أهم الموضوعات التي يهتم بها علم النفسعموماً وعلم النفس المعرفي والعصبي خصوصاً،سواءً الوعي بالذات(كما كان يقصد ديكارت بعبارته) أو الوعي بشكل عام، وليس هذا المقال لمناقشة العلاقة بين علم النفس والفلسفة, وإنما ذكرت جزء من ذلك لتوضيح أهم أساب غياب الفلسفة لدينا.
إن الفلسفة بناءٌ صمَّمه الإنسان بحسب الظروف البيئية والحقبة الزمنية التي عاصرها والأحداث المتعددة بشتَّى مناحيها، فكل فيلسوف قد بنى فلسفته وشكَّلها برؤيته الخاصة ورسم ملامحها وحدَّد معالمها، سواءً انطلق من حيث انتهى الآخرون أو أقامها على قواعد جديدة بأفكار وتأملات مختلفة، نعم، ليست علماً، وتبقى تأملات، لكنها أنتجت علوماً خدمت البشرية في شتىَّ المجالات.
إن الفلسفة تكتسب أهميتها من خلال الموضوعات التي تبحث فيها وتهتم بها, فالفلسفة تبحث في الوجود والإنسان والحياة والمعرفة والحقيقة وغيرها من القضايا, وإن الميزة العظمى التي أعتقد أنها تميِّز الفلسفة, هي أنها تجعل الفرد في طريق لا نهاية له من البحث عن حقائق الأمور, وحتَّى لو وصل إليها واستطاع أن يدرك كُنهها, فإنه سيظل يشعر بأنه ما زال يجهل الكثير, لذا نجد أن سقراط لم يكن مبالغاً عندما قال واعتقد بأنه:
لا يعرف شيئاً!
في الوقت الذي نجد فيه أحدهم يعطي نفسه الحق في تقييم فلاسفة كبار سابقين ليس لشيء وإنما لأنهم عرب ومسلمين فقط! وفوق ذلك كله ينكر إسهاماتهم وأنهم مجرَّد عالة على الأمم! رغم أن فلاسفة وعلماء الغرب قد اعترفوا بفضل إسهاماتهم وأثرها الكبير في قيام النهضة الأوروبية.
لذا عندما تجد أمثال هؤلاء فاعلم يقيناً أنهم لا يعرفون عن الفلسفة شيئاً, ومصادرهم في الغالب كتب مترجمة قديمة أو كتب عربية غير متخصصة.
إن الفلسفة ليست مجرَّد معلومات عن الفلاسفة وأعمالهم(ببليوغرافيا), إن الفلسفة ليست علماً ماديِّاً جافاً أو علماً ذو مفاهيم مجرَّدة لا روح لها, الفلسفة تربي وتطور وتنمي وتعلم, الفلسفة تتجه للنفس والجسد والروح, الفلسفة ضرورة حتمية لوجود الإنسان, فلو لم يكن هناك إنسان لما كانت هناك فلسفة, لذا فإنني أرى أن غياب الفلسفة هو تغييب للثقافة الإنسانية الذي يؤدي بدوره إلى غياب قيمة الإنسان.
وإن الضعف الذي نشاهده في طلابنا من حيث عدم القدرة على المناقشة والحوار العلمي الرصين وصياغة المشكلة صياغة علمية سليمة, لهوَ أحد أهم الظواهر الناتجة عن غياب الفلسفة لدينا, ليس ذلك فحسب! بل إن الكثير من المشكلات التي نواجهها في مجتمعنا مؤخراً من تصدُّر مجموعة من السطحيين الذين يتم تقديمهم في مجتمعنا على أنهم نُخب ثقافية ورموز تنويرية, كل ذلك ناتج عن غياب الفلسفة, لأنه لو كان هناك معرفة فلسفية عند هؤلاء الأشخاص لما شاهدناهم يُعظِّمون ويقدِّسون أشخاص سطحيين ويعيدون تغريداتهم التافهة! لكن غابت الفلسفة فغابت لغة العقل, لأن غياب الفلسفة ينتج عنه بالضرورة الكثير من القطعان التي تنقاد للشخص بحسب الكاريزما التي يتمتَّع بها ذلك الشخص دون النظر إلى فكره وأقواله وأعماله وإخضاعها للنقد بشتَّى صوره, فتجد هؤلاء السطحيين يستغلون جهل هؤلاء فيقودونهم كيفما يشاؤون وكما يقود أحدهم قطيع أغنامه.
من نتائج غياب الفلسفة أيضاً عندما تشاهد أحد التافهين(الرويبضات) يحظى بعدد كبير من المتابعين, وتشاهد المئات ممَّن يعيدون تغريداته السطحية! والمضحك في الأمر عندما يعتقد هذا المغرد أنه بمجرَّد نقله لتعريف إيمانويل كانت للتنوير, أو يغرِّد بمقولة للمفكر عبد الله القصيمي أو غيره من المفكرين في الماضي والحاضر,يعتقد أنه بذلك أصبح تنويرياً!
وإنه لمن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن الفلسفة لا علاقة لها بالتقدم والتنمية بمعناها المعروف في العصر الحديث, ولتوضيح هذا الأمر سأكتفي بنقل رأي الأستاذ الكبير والباحث في مجال الفلسفة شايع الوقيان, حيث أشار الوقيان أثناء حديثه عن الفلسفة وأهميتها في النادي الأدبي بجدة والذي نشرت صحيفة الحياة السعودية جزءاً منه:
"السؤال عن فائدة الفلسفة يتكرر علي في شكل مزعج, فكل من يعرف اهتمامي بالفلسفة يسألني ما الفائدة؟ هل ستفيدك في عملك أم ستكون سبيلاً لكسب المال؟ أم...أم...؟ أحاول يائساً أن أخبرهم أن المنافع والفوائد ليس شرطاً أن تكون مادية, وأن هناك منافع عقلية أو معنوية أو حضارية نحن في أشد الحاجة إليها. فالفلسفة كالأدب والفن لا تقدم لنا فوائد مادية, فهي ليست كالعلوم البحتة, ولا سيما الفيزياء والكيمياء والميكانيك, التي تجعل العالم المادي موضوعها, إنما موضوعها هو العالم الإنساني, موضوعها هو الإنسان وعقله وقلبه وذوقه وعلاقاته وهمومه ووجوده".
والطريف في الأمر أن الأستاذ الوقيان رغم إسهاماته المتعددة في حقل الفلسفة من حيث تعدد الكتب التي ألَّفها والبحوث الفلسفية التي قدَّمها, منها كتابه الرائع(الفلسفة بين الفن والايديولوجيا), رغم كل ذلك لم نشاهده ينتقد
بإزدراء أعمال وإسهامات الفلاسفة العرب والمسلمين, وذلك لأن مفعول الفلسفة قد تمكَّن منه, لأنه قد فقه الفلسفة على حقيقتها, أعطى الفلسفة من وقته الكثير, عشق الفلسفة لذاتها فأعطته الفلسفة ثمارها التي من أبرزها خصلتي التواضع ومعرفة حقيقة النفس, ولقد عرف الوقيان وأدرك وأيقن بحكم اهتمامه العميق وخوضه لغمار الفلسفة, أنه لا يعرف شيئاً! نعم, لا يعرف شيئاَ, وأجزم أن ذلك لا يزعجه, لأنها الحقيقة التي يصل إليها كل من سلك طريق الفلسفة. لم يتعلَّم الفلسفة ليتنمَّق ويتشدَّق بمصطلحاتها لينال شهرةً بها ويُشار إليه بالبنان كما يفعل الكثير من المتطفلين على الفلسفة.
إن من يفتقد لصفة التواضع التي هي أبرز ما يميِّز الفلاسفة وأبرز ما تورثه الفلسفة لدى كل مهتم بها, فلا حاجة للفلسفة به, بل إنه متطفل على الفلسفة التي يجهل حقيقتها, وكنت قد ذكرت في أحد مقالاتي عن أشهر الفلاسفة في عصر التنوير, وهو الفيلسوف الفرنسي فولتير, والذي ما كان ليحقق ما حققه من تأثير على كل من عاش في تلك الحقبة لولا بساطته وقربه من العامة, لم يجعل فولتير قبل اسمه أي ألقاب مثل المفكر أو التنويري وغيرها من تلك المسميات, لأن تلك الأمور الهامشية ليست من أولوياته واهتماماته, الناس هم من أعطوه تلك الألقاب وليس هو من أتى بها وقدَّم نفسه لنا من خلالها, عرفوه وعرفناه بإسمه فقط(فولتير), تعلَّم من الفلسفة كيف يتواضع, تعلَّم منها أن قيمته في ذاته, ثقته يستمدها من ذاته لا من شهرةٍ ينالها أو منصب يشغله أو لقب يسبق اسمه. عاش بين العامة والبسطاء كواحدٍ منهم, وهو بالفعل واحد منهم! أليس إنساناً يتألم كما يتألمون ويحزن كما يحزنون ويفرح كما يفرحون؟
كذلك لم يتنكَّر فولتير لإسهامات من سبقوه, بل اعترف بها وقدَّر لهم أعمالهم, واستفاد منها, فنال بذلك احترام جميع علماء وفلاسفة أوروبا والعالم أجمع, وأصبح أول اسم يُذكر عندما يُذكر عصر التنوير, هكذا يخلِّد التاريخ من يتواضع ويعرف قدر من سبقوه ولا يجحد أفضالهم أو ينتقص منهم ومن أعمالهم.
في الختام, فإنني أرجو وأتمنى من المسؤولين عن التعليم لدينا أن يقرروا منهجا لتدريس الفلسفة في مراحل التعليم المختلفة, وأن تُعدَّه نخبة من المختصين بالفلسفة والاستفادة ممَّن سبقونا بهذه التجربة, كما أرجو من المسؤولين عن الشأن الثقافي, أن يقوموا بتأسيس لجنة لمكافحة فساد الرويبضات, خصوصاً وأننا نعيش عهد جديد لا مكان فيه للفاسدين, والفساد الثقافي لا يقل خطورة عن الفساد المالي والإداري, حيث يكون من أعمال هذه اللجنة تقييم الأشخاص قبل ظهورهم في الإعلام سواءً المقروء أو المسموع أو المشاهد, وذلك بوضع شروط وضوابط واختبارات يخضعون لها, كذلك الذين برزوا مؤخراً في مواقع التواصل الاجتماعي, حيث أن هذه المواقع وللأسف أصبحت بيئة خصبة لتكاثر الرويبضات, أتمنى إيقافهم ومنعهم من الظهور وإغلاق حساباتهم لحماية مجتمعنا وأجيالنا من حماقاتهم وسطحيتهم, بالإضافة إلى محاسبتهم على كل مبلغ مادي أخذوه مقابل الإعلانات لديهم.
ليكن شعارنا في هذه المرحلة:
(نحو مجتمع بلا فساد وبلا رويبضات).
التعليقات