الاصل في الامور هي الاباحة، والاصل في اللغة، العربية بالطبع، وبيقين لا تختلف اللغات عنها قيد شعرة، والاصل فيها هو التنكير ثم تأتي بعدها المعارف، وهي قليلة لا تزيد عن ستة.. والاصل في التعبير والكلام اطلاقه، بلا قيود، انما السلطة، اية سلطة، تريد ان توهم الاخرين بقانون حرية التعبير، بينما القصد عندها، انها تريد ان تحدد للمتكلمين ما ينبغي لهم ولا ينبغي في الكلام، الممنوع والمسموح. وهذ مما يعرفه الجميع، كل الناس المعنيين يعرفونه، وهم ادرى من غيرهم، ان قانون حرية التعبير انما توجهه السلطة ضد فئة محددة من الناس، هم: المثقفون والكتاب ومن يتصل بهم.. اما عامة الناس فهؤلاء لا يحتاجون لقانون يحدد لهم الممنوع فرقا عن المسموح به؛ فلكل منهم مقدسات وحدوده التي لا يسمح، لنفسه، اولا، بتجاوزها.. والمثقفون والكتاب عامة هم المعنيون بأمر الدفاع عن حريته، واية مناشدات او تهويمات او تصورات باشراك العامة في هذا الدفاع، هو ضرب من التلفيق الثقافي والانساني المضر بقضتهم الاهم، وهي الدفاع عن حرية التعبير للجميع، بان لا يتعاطفون مع السلطة.. والحق ان مجرد المطالبة باشراك العامة، هو تمييع للأمر برمته وهو، كذلك، مساندة للسلطة في هذه القضية؛ فهي تعرف ان العامة معها، ثم ان هذه المطالبة تحرمهم من فرصة حقيقية بإظهار السلطة واتهامها، امام العالم، انها تضطهد مثقفيها، وتمنعهم من التفكير الحر.. ان السلطة غير معنية مثلا بملايين الناس وشؤونهم، بقدر دفاعها عن مؤسساتها، وهي تعرف ان هذه الملايين قد سيجوا عقولهم بعشرات التابوات، وهذا ليس شتما لاحد، بقدر ما هو تقرير واقع الحال، وملايين الصفحات على الفيس وغيرها خير شاهد ودليل.. ولنكن واضحين، فان السلطة تخشى من امرين، فإما الاول: انها تريد ان تعاقب من يعريها ويكشف اسرارها. والثاني: انها معنية كسلطة بمنع المثقفين من تفكير والتعبير بطريقة مغايرة لما تريده هي.. ولاباس ان تفكر بطريقة مختلفة لكن مشكلتك معي كسلطة تبدا عندما تنشر كلامك، وبصورة خاصة عندما يصبح مؤثرا! وليس القصد هنا بالمثقف ان ينصرف، بالضرورة، الى الكاتب وصورته النمطية، ومثل هكذا مثقف ربما هو غير موجود بصورته الان، وهو لا يملك التأثير الذي نتحدث عنه؛ ففي شعب تشكل الامية، الثقافية بصورة خاصة، اغلبية ساحقة ضمن متعلميه، يصعب الحديث عن هكذا امر، انما يتوسع مفهوم المثقف عندي ليطال شرائح وفئات عديدة تملك القدرة على التأثير في العامة بطريقة ايجابية، كالفنانين والمطربين واصحاب الراي في قنوات البث التلفازي واليوتيوب مثلا، ولا اتردد في ادخال المدونين ضمنهم، وهؤلاء تخافهم السلطة كثيرا، خاصة سلطة بلادنا المجبرة ان تؤدي دور المراقب، او المفاوض نيابة عن فئة معينة او عن الشعب كله، او حتى عن دولة اخرى.
اغرب ما في قصتنا كشعب، ان لها صلة مؤكدة بالقمع والمراقبة كما لو انها لازمة البقاء على قيد الحياة؛ فالبعث بدأ حكمه بإصدار قانونين لهما الف صلة بتفتيش عقول الناس قبل جيوبهم وتعقّب حركاتهم. الاول هو قانون عقوبات لم يترك شاردة او واردة الا ووضع لها عقابا رادعا؛ بقصد يقفز عليه المختصون به، ان يكون القانون الجديد اداة لمعاقبة الناس، كل الناس. والثاني قانون مطبوعات جديد اُلغيت بموجبه اجازة عشرات الصحف والمجلات العراقية، وهي التي صنعت افضل حقب العراق ثقافة واستقرارا اجتماعيا، وكان ما كان. وسلطة ما بعد البعث كان لها ان تبدا عهدها بدستور كان بالضد تماما من كل ما ناضل العراقيون لأجله. وسيقال دائما في الرد ان الدستور العراقي قد تضمن خصائص ومميزات قل وجودها، اهمها الاعتراف بالآخر المختلف، واعترف بحقوق عديدة، وقدّم ضمانات كثيرة، لكنها كانت هواء في شبك؛ فلا قيمة لضمانات كهذه بالنسبة لشاب يعرف ان لا احد سيحترمها، لا قيمة لضمانات تتعلق بكرامة الانسان؛ فيما الشاب يعرف جيدا ان لا كرامة له، بان يجد عملا يحقق انسانيه، لا قيمة لأية ضمانة في وطن يستيقظ موطنه صباحا ليجد ان ثلثه قد ضاع؛ لان بضعة عشرات قرروا ان يلعبوا معنا لعبة الاستغماية. نعم، لا قيمة لوطن يجرف الكناسون كل صباح كرامة الانسان من شوارعه وساحاته، بالضبط كما كتب يوما شاعر بلاد الياسمين العظيم: "مع القمامة اخر الليل". لا قيمة لهذه الضمانات؛ فيما يرى العاطلون عن العمل ان من باع حلمهم بالعمل يكرم بمنصب مرموق في هذا الوطن! مع ذلك، وحتى لا نغرق باللغة اليومية، فان الوطن يكافح لأجل الجميع. لنتذكر الان نقاشات لجنة كتابة الدستور، كانت قد بددت وقتا عزيزا، وهي تناقش صيغتين، الاولى وقد رفضت رفضا قاطعا من المحتل الامريكي، ان يكون الاسلام هو المصدر الاساس والوحيد للتشريع، فيما رفضت الثانية ممن صار وزيرا او وكيله، ونصها يقول: الإسلام دين الدولة الرسمي ويُعد مصدراً للتشريع ولا يجوز سن قانون خلال المرحلة الانتقالية يتعارض مع ثوابت الإسلام المُجمع عليها. هذه الصيغة جرى رفضها بصورة قاطعة؛ لانها تسمح ببعض "التأويل" والمعارضة. مع ذلك، لنتذكر ان هذا الدستور قد اشار بوضوح كاف لحق العشائر ان يكون لها قانونها وهيكليتها. والغريب ان اغلب من كتب هذا القانون كانوا قد تعلموا في مدارس المرحوم "عبد الكريم قاسم"؛ ولولاها ربما ما كان احدهم يعرف كيف يرسم اسمه، وهؤلاء بحاجة ماسة لان يتذكروا ان اباءهم كانوا ينامون على امل ان يتكرم الشيخ او الاقطاعي ان يعطيهم بضع تمرات..! نعم، نحن دائما مع صياغة جديدة لقصتنا الاولى، قصة هذه البلاد مع القمع والمراقبة. صدام، مثلا، وهو رئيسنا السابق، كان يعرف انه بلا شرعية لحكم العراق؛ فلا انتخابات جاءت به، ولا حزب يملك مشروعية وجماهيرية. وبالنسبة اليه كان سبيله لحكم العراق ان يعاقب الجميع، كل الشعب، واوله البعثيون انفسهم. والان يستعيد من عاش ذله الفكرة الاصل، ان الرقابة والعقاب هي السبيل الامثل لحكم العراق. فكلما شعر حاكم ان الشعب لا يريده يهرع لكتابة ورسم حدود الممنوع والمسموح. كان هذا شأن صدام، وهو شأن الاسلاميين الان. وللناس ان يفهموا.. وبتشديد ان على المثقفين ان يفهموا، وانا احدهم، وهذا ليس مدحا، ان السلطة تفكر بالمنع والعقاب كلما وجدت نفسها قد افلست؛ وهل من افلاس اكثر من كل هذه الدماء، فيما لا سبيل ان يقبل شركاء هذا الوطن، ان احدا يدافع عنهم، بدمه مثلا،! وللمثقفين ان يذكِّروا عامة الناس، ان احدى اهم سرديات تخريب البلاد هو انقاذها من فلسفة المنع والمراقبة، كما كان يفرض حاكم هذه البلاد. وكان هذا اول اكاذيب سلطة ما بعد صدام، انهم، مثلا، قد ركبوا الدبابات الامريكية، وهي ذاتها دبابات الشيطان، لاجل هذا الوطن المذبوح من الوريد الى الوريد. الان نصل الى النتيجة ذاتها، ان السلطة هي ذاتها، ولديها قصة واحدة لن تفرط بها، هي قصة حق السلطة مع المعترضين والاوغاد من مثقفين وكتاب، فقط ان عامة القوم لا يفهمون انها ذاتها قصة البلاد جميعها. 
مع ذلك، بتشديد اخر فان الناس في العراق لا يحتاجون لقانون يحمي حريتهم المفقودة من التعبير؛ فهؤلاء تحكمهم، بالأصل، الف قصة وقصة عن بطولات الاوصياء والانبياء الذين لا ينبغي ان تصفها، ان تناقش تصوراتهم؛ فهم انبياء واوصياء!

مثلا كل خرافات محمد عبد الوهاب عن الاسلام سيكون من الصعب، او بالأحرى ان ثمن مناقشتها غال، ان تقول عنها انها مجرد خرافات، مثلما هو حال صاحب كتاب بحار الانوار الذي جعل سرديات الشيعة مادة للسخرية والضحك.. فالسلطة ستقول، او توحي لهم؛ انها لا تفعل سوى ان تشير، بألف طريقة وطريقة، انك نشرت هكذا اراء، وجعلها مادة في فم المهتاجين: اولئك اعداؤكم ولكم ان تنتقموا منهم: الم نقل ان موضوع حرية التعبير لا يخص سوى اصحاب الراي المختلف!

والان احاول تخيل مصير كاتب عراقي، بعد اقرار قانون حرية التعبير، يقول بأصل اطروحة المرحوم نصر حامد ابو زيد؟ ولم يقل الرجل امرا يستحق العقوبة التي فرضت عليه، وجوهر ما قاله لا يزيد عن تقرير واقع الحال: ان لا احد يستخدم الان لغة القران، واشار الى تمييز مؤسس اللسانيات الحديثة دي سوسور بين اللغة والكلام؟ ولنترك حامد ابو زيد، ولنفكر بطالب ماجستير يدرس كتاب الرصافي الشهير: الشخصية المحمدية؛ فماذا سيحصل؟ وماذا سيكون مصير من يتأمل قوله في القران الكريم: "تبارك الله احسن الخالقين"، وقد يذهب صاحبنا بعيدا في قراءة صفة الجمع في قوله "الخالقين"، ليفترض ان القران نفسه يعترف لآخرين بصفة الخلق، لكنه يبقي لنفسه مزية انه احسنهم جميعا. والحق كانت المرجعية الدينية الشيعية في العراق تملك قدرا معقولا من المرونة، وهو ليس مديحا مجانيا لها بقدر ما هو تقرير اخر عن واقع هذه البلاد، التي عملت فيها احزاب يسارية وقومية وعلمانية، والاخيرة قليلة التأثير ولا شك.. هذه الاحزاب فرضت واقعا صلبا، اهم مظاهره هو تحديد المجالات: حدود رجل الدين، بما فيه المرجع ذاته، وحدود رجل السلطة، بما فيه ايضا رئيس الدولة، وصاحب الكلمة الفصل.. هذا امر لا ينبغي لنا اهماله! وبتصوري ان مرجعيات الكتل الجماهيرية قد اختلفت الان، واصبح بإمكان رجل الدين مثلا ان يفرض حدوده المقدمة، من قبله، كحدود الله! وقد نقول ان مرونة المرجعية الشيعية كانت امرا مفروضا عليها؛ بسبب تشعب وتعدد انتماءات العراقيين المذهبية والقومية والدينية، فضلا عن العشائرية.. ولا ننسى الصعود المبكر لمراجع امنوا بموضوعة الوطن الواحد.. لكن السبب الاهم برايي، هو ضعف التزمت الديني عند العراقيين؛ كون الاغلبية منهم ابناء ريف وقرى، والريفي غير متزمت دينا بطبعه..! وهذا امر يختلف عن حالة مصر، ونجد هناك تشدد الازهر وتدخله في الصغيرة والكبيرة، وسبب هذا الامر، بتصوري، راجع لتدين المصريين الواضح.. ما يحدث الان عندنا هو ان احزاب الاسلام السياسي الشيعي، وقد امتلكت السلطة، صارت تستخدم الدين في خدمة بقائها في السلطة، لكن هذا لا يعني تغيرا جذريا في الطابع المتسامح عند العراقيين..

*كاتب واكاديمي من العراق