هنا على مساحة الشرق الأوسط، حيث مصنع الأزمات، نحتاج دائماً إلى كاميرات بجودة عدسات عالية لنقل وتصوير حكايات الخيبات، نكبات متناسلة، صور وجوه منكسره، قوافل نساءٍ متّشحات بالسّواد، بأوجاع الرحيل، أطفالٌ وأغراض ورجالٌ وهزائم، وحدها الكاميرات تمارس إنسانيّةً ما في توثيق عبور هذه الشعوب المقهورة إلى الشّتات الذي سيّان إن كان جواراً أو ما وراء بحار هناك على الضفّة الأخرى من العالم، حيث بضاعة الأمل والسلام. 

يوم أمس دخلت نكبة فلسطين عامها التاسع والستين، مرّت بهدوءٍ وخفَرٍ مصحوبٍ بخطاب نوستاليجيّ كلاسيكي، هي الأخت الكبرى التي سبقت أخواتها في الولادة ثم كانت نكساتٌ ونكبات، النكبة السوريّة تعيش عامها السادس، والنكبة العراقيّة متواصلة وكذلك اليمنية والليبيّة وقبلها الصومالية والسودانية واللبنانيّة، ماراثون النكبات هذا يَعْدُو لمسافات طويلة ولا يبدو أن له خط نهاية في المدى المنظور. 

تُشير حدّة المواجهة وجذريّة الصراع وقساوَته بين مختلف الأطراف إلى إرتفاع في عمليّة حرق " الفائض البشري " في سياق إستمرار "ترشيق" بُنية الشرق الأوسط وصولاً إلى وقائع ديموغرافيّة جديدة يجري على أساسها ترسيم كيانات وتوازنات المنطقة لعقود مقبلة. 

واضح أن عمليات التهجير القسري والتطهير العرقي مستقرّة على رأس أجندة سياسات الدول الكبرى المؤثرة في ملفات وأحداث المنطقة، وهي تستهدف كل المكونات الإثنية والدينيّة مع فروقات نسبيّة تُحددها الظروف الموضِعيّة لكل عمليّة على حدا، أمّا إعتبار هذه النكبات الكبرى جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية بحسب منطوق القانون الدولي أو بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أو اتفاقيات جنيف الأربع وغيرها، فلا يلتفت لها اللاعبين الكبار إلاّ _ ربّما _ بعد حين، وفي حال دعت الضرورة وتوفّر لها توقيت سياسي مناسب. 

ليس إكتشافاً القول بأن لعمليات وحملات التهجير القسري والتطهير العرقي أسلوب عنف يكاد يكون واحداً متشابهاً إلى حد التطابق في كل مكان وهو مستلهم من الإرهاب ضد السكان المدنيين من قبل مجموعة عرقية أو دينية مختلفة، ومن بين هذه الأساليب "القتل والتعذيب والاعتقال التعسفي والاحتجاز والإعدام خارج نطاق القضاء والاغتصاب والاعتداءات الجنسية، فضلاً عن حصار السكان المدنيين والتجويع والتهجير والترحيل بشكل قسري والهجمات العسكرية أو التهديدات بشن هجمات على المدنيين والمناطق المدنية والتدمير المتعمد للممتلكات. 

سبق أن نُفّذت سياسات الإبدال السكاني هذه في أوائل القرن الماضي إثر إتفاقية سايكس- بيكو، فالتركيبة المستحدثة في فلسطين المحتلّة وإستقدام يهود العالم إليها ما كانت لتكون إلاّ في سياق مشروع متكامل، إستوجب القيام بعمليات ترهيب مُنظّمة ليتحقق المُخطط فيما بعد على أنقاض تهجير الفلسطينيين، وفي لبنان إبان الحرب الأهليّة خاصة بين الدروز والمسيحيين جرت عمليات تهجير واسعة و متبادلة في عدّة قرى ومناطق ثم عُقدت مصالحات إلاّ أن هذا الملف كان له ندوب غائرة في نفوس السكان ولم يطو نهائياً بعد، التهجير العرقي تكّرر في يوغوسلافيا السابقة بين الصرب والكروات والبوسنيين، وتجري حالياً عمليات نزوح وتهجير في العراق بحق العرب السنّة بصورة كبيرة كما بحق الشيعة وإن بنسب أقل، وبطريقة فجّة يُطارد الأزيديين والأشوريين والكلدان وأعراق ومكونات أخرى من " الأقليات "، في سوريا يتم تنفيذ مخططات التهجير _ إستجابة لمتطلبات الأجندات الدوليّة والإقليمية ولمقتضيات الصراع _ بدءاً بأحياء حمص القديمة، ثم لاحقا في القصير و مناطق الزبداني ومضايا، وبلدات داريا وقدسيا والهامة والمعضمية في أرياف دمشق وشرقي حلب وشمالها في قريتي نبّل والزهراء. 

يُشار إلى أنّ مثل هذه الممارسات على إختلاف مسمياتها تُعتبر في بعض المدارس السياسيّة والعسكريّة شر لا بد منه وكأسٌ مرّ لا بد من تجرّعه تمهيداً لحلول سياسيّة دائمة تحمل صفة الإستقرار والإستدامة.
التغيُّرات الجيو- سياسيّة المٌعبّرة عن إتجاه عام لإعادة رسم التوازنات أطلقت العنان لكل المجموعات التي يتشكل منها الشرق الأوسط بإتجاه المطالبة وتحصيل حقوقها القوميّة والإنسانيّة والتي حُرمت من بعضها لعقود وقرون سابقة، فقد بات الآن من المستحيل تصور بقاء تركيبة المنطقة على الهيئة التي كانت عليها قبل إندلاع الأحداث. 
ولا شك أن زمن "الأحاديّة " العرقيّة والدينية قد أَفلَ في أكثر من دولة في الإقليم وبرزت دوائر نفوذ جديدة تمثلت بشكل حاسم في صعود الشيعة والأكراد، وصار العرب السنّة أمام حقيقة تقتضي التكيّف _ سلماً أو حرباً _ مع هذا الواقع الجديد. 

الخطورة أن هذا التغيير المُفترض أن يكون " طبيعي" وتحصيل حاصل في مجتمع مُعافى متصالح مع نفسه، لم يكن كذلك وما كان ليتحقق إلاّ بنزاعات مفتوحة وفاتورة دم باهظة لم تنتهي بعد، ما يضع هذه التركيبات الجديدة _ بنطر الأطراف المتضررة _ في سياق تآمري قهري ويؤسس لإنقلاب ثأري عليها والإنتقام منها في أي فرصة لاحقة !

تدفع جميع "شعوب " الشرق الأوسط ثمناً غالياً لفشل تجربة التعايش وضمور التنوير والإستهتار بقيم التسامح وضعف ملاءة قبول الغير، وما يجري على الأرض من مشاهد مُحبطة لأشلاء ضحايا وقطع رؤوس ومجازر وتطهير عرقي وقوافل بشريّة مهجّرة تجّر خلفها ذيول خيبة مجتمعات هشّة وأوطان مذبوحة ما هو إلاّ إنعكاس فضّ لحقيقة العلاقات المضطربة بين مكونات هذه المنطقة بعضها ببعض وعدم إقتناع الأغلبية بمفهوم المواطنيّة وإستشراس النزعات الإنفصاليّة والقلق والتقوقع ضمن الهويات الصغرى.

وقْف ماراثون النّكبات في المنطقة يحتاج لقوى وازنة ذات رؤية عادلة، مؤمنة بالشراكة، تكون مالكة لزمام المبادرة، صانعه لقرارها، قادرة على التأثير في الرأي العام، وتستوجب مَهمّة كهذه تلاقحاً حضارياً يمهّد الطريق _ إن تمّ_ لولادة ذلك الشرق الأوسط المعلوم المجهول الذي نعيش إرهاصاته اليوم.