غيب الموت أمس الجمعة أحد أهم رموز الحركة التحررية الكردية ومفجر ثورة شعب كردستان إثر إنهيار قيادة ثورة أيلول بزعامة المرحوم الملا مصطفى البارزاني عام 1975.. فقد رحل عنا نوشيروان مصطفى المناضل الكبير وزعيم إنتفاضة آذار 1991 والتي أطاحت بحكم البعث في إقليم كردستان وحررت شعبه الذي تنسم هواء الحرية لأول مرة في تاريخه النضالي الطويل الممتد عبر أكثر من ثمانين عاما من إلحاق كردستان بالدولة العراقية.
غاب ظل هذا القائد الرمز بعد صراع مرير مع المرض اللعين الذي إضطره للإبتعاد عن شعبه طوال السنة الماضية غائبا عن الساحة السياسية بإقليم مضطرب تتقاذفه الأمواج العاتية جراء الأزمة السياسية الناجمة عن تمسك مسعود بارزاني بكرسي الحكم وإطاحته ببرلمان كردستان الشرعي وفشل سياساته النفطية التي أفقرت الشعب ووصلت الى حد قطع أكثر من نصف رواتب موظفي الحكومة ووقف المشاريع الخدمية والإنمائية طوال السنتين الماضيتين.
لقد كان نوشيروان أحد أهم رموز الحركة التحررية الكردية خاض معترك العمل النضالي منذ شبابه عام 1967 الى جانب رفيق نضاله الرئيس جلال طالباني، وعمل كرئيس لتحرير العديد من الجرائد الثورية الكردية الى حين صدور بيان الحادي عشر من آذار عام 1970 الذي أٌقرت حكومة البعث بموجبه بحقوق الشعب الكردي في الحكم الذاتي والذي تراجع عنه فيما بعد في عام 1974 ما أدى الى إستئناف القتال بجبال كردستان مرة أخرى..
وفي عام 1975 بعد إنهيار ثورة أيلول التحررية بزعامة الملا مصطفى وإمتثاله لأوامر شاه إيران المقبور بتصفية الثورة واللجوء الى إيران،كان نوشيروان على وشك تقديم أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية بالنمسا، ولكنه ضحى بتلك الشهادة الأكاديمية الرفيعة ليعود الى صفوف شعبه لقيادة ثورة جديدة ضد نظام البعث، وبادر مع عدد من رفاقه منهم جلال طالباني وعادل مراد وفؤاد معصوم وغيرهم لتأسيس الإتحاد الوطني الكردستاني الذي قاد ثورة جديدة بجبال كردستان والتي إنتهت بتفجير الإنتفاضة الربيعية عام 1991 وثم تأسيس البرلمان وتشكيل حكومة الإقليم..
كانت لنوشيروان مواقف سياسية ووطنية خلال سنوات نضاله الثوري، ففي منتصف التسعينات حين إندلعت الحرب الداخلية بكردستان بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني،غادر كردستان إحتجاجا على تلك الحرب التي كادت أن تودي بكل المنجزات التي حققها الشعب خلال سنوات نضاله الطويل وتقضي على تجربة البرلمان وتشكيل الحكومة المحلية.. كما كان أحد واضعي الدستور العراقي الجديد إثر سقوط نظام البعث وعمل بجهد إستثنائي لتضمينه كل الحقوق القومية للشعب الكردي..
وفي منتصف عام 2009 أسس حركة التغيير التي كانت ردا عنيفا لسياسة الحزبين الحاكمين في كردستان بإغراق الإقليم بالفساد والإثراء من السلطة وإفقار الشعب، ونجح في غضون أشهر قليلة من تأسيس حركته بالحصول على ثقة شعبه مما مكنه من إنتزاع ربع عدد مقاعد برلمان كردستان من يد الحزبين الحاكمين لتكون الحركة ثالث قوة أساسية في الإقليم، ورفض الدخول بتشكيلة الحكومة وقاد حركة المعارضة للسلطة من داخل البرلمان طيلة الدورة الإنتخابية مما عرضه للكثير من المشاكل والمواجهات بين حركته وأقطاب السلطة الحاكمة بإقليم كردستان، لكنه بصموده البطولي إستطاع أن يؤسس لحركة معارضة برلمانية نشطة بعد ما يقرب عقدين من حكم الحزبين الحاكمين.
عرفت هذا المناضل الكبير عن قرب وكانت لنا حوارات وجلسات كثيرة ومتعددة، إكتشفت فيه روحه الثورية ونصرته لطبقة الفقراء والمحرومين ورغبته الملحة في تغيير الواقع الكردي، وحرصه على دماء الشهداء وتضحيات شعبه..ففي جلسة حوار بمنزله سألته عن أسباب تأسيسه لحركة التغيير المعارضة وخروجه عن صفوف الإتحاد الوطني وهو أحد مؤسسيه فأجابني" أنا مدين لكل اولئك الفلاحين وأسرهم الذين إحتضنونا في بيوتهم أثناء جولاتنا العسكرية بجبال كردستان. كما أنني مدين لكل الرفاق الذين أستشهدوا في خنادق النضال الى جانبي،ومن واجبي اليوم أن أرعى عوائلهم تثمينا لتضحياتهم. وأنا مدين لكل هؤلاء الذين صوتوا لحركتنا في الإنتخابات، يجب أن أحقق لهم مطالبهم وأن أضحي بدوري من أجلهم".
ونوشيروان هو القائد الزاهد عن الدنيا وعن مناصب الحكم والإمتيازات،وهو صاحب المقولة الخالدة" إن لم أستطع أن أصلح حال فقراء شعبي، فعلى الأقل يمكنني أن أعيش مثلهم".وهكذا زهد عن مناصب الحكم ولم يتول طوال سنوات نضاله الممتد لأكثر من نصف قرن أي منصب حكومي رغم أنه كان أكثر جدارة من جميع رفاقه لتبوء أرفع مناصب الدولة.. ورحل عن شعبه ولم يترك خلفه لا قطعة أرض مسجلة بإسمه، ولا شركة خاصة به ولا حسابا بنكيا، فقد أورث أبنائه فقط كتبه التي ألفها طوال حياته والتي تبلغ 27 كتابا في التاريخ والسياسية والأدب والثقافة والسيرة الذاتية..كان يسكن بمدينة السليمانية دارا للبلدية يدفع إيجارها الشهري من جيبه ورفض السكن في الفيلات والقصور، وكان هندامه بسيطا لايختلف عن فقراء شعبه،فلم يرتدي بدلات من ماركات إيطالية أو إنجليزية، ولم يعطر نفسه بعطور فرنسية، بل كان الناس يشمون فيه رائحة عرق الفلاحين والعمال، ويرونه يلبس مما يلبسون..
كان نوشيروان بكل بساطة هو الحلاج في زهده، وجيفارا في ثوريته،وغانديا في نضاله المدني، ومانديلا في تعامله السياسي، جمع كل هذه الشخصيات التاريخية في نفسه فأصبح رمزا وقائدا فذا لشعب مقهور مظلوم تقمعه سلطة غاشمة فاسدة..
لذلك بكت كردستان بجبالها ووديانها على رحيله، وإحتشد مئات الألوف من شتى أرجاء كردستان لإلقاء نظرة الوداع على جثمانه الطاهر،وإنتقل الى الرفيق الأعلى مثل أعظم الشخصيات التاريخية مثل عمر وعلي لا له ولا عليه، إنتقل الى رحاب السماء روحا طاهرة ستظل ذكراه باقية في قلوب جماهير كردستان من المظلومين والكادحين والحالمين بغد أفضل الى أبد الآبدين..
التعليقات